ليلة شتوية، سماء مكفهرة، تجثم بسحبها على أضلاع المدينة، العتمة سيّدة المداخل، ضاعت تقاطيع المكان في تساريب الخوف، الزمهرير يصفع المدينة، ينفخ في شوارعها فيرتد خوارا لتمثال عجل كاد أن ينبت في تربة مدينة عجزت عن الضّحك في وجه الشّمس الضاحكة في وجوه مشمئزّة.
الليل متعالٍ، طاعنٍ في ظلمته، غير آبه بوشوشات الخوف في عيون المارّة المتلصّصين على جدران غريبة لا تمتّ بصلة لمدينتهم.. قيل أنّ الطين هرّبه المارقون إلى مدينة تنير فيها أضواء لا تشبه قناديلهم.. في غفلة من الخوف تكبر الأجساد، ويزيد صقيع المدينة.. تنتن الأجساد وتصبح مجلبة لكلاب الليل الضارية. ينفك من إسار كؤوسه التي دارت على طاولة المخمرة الأخيرة في الشّارع، ويخرج متلهفا لأخذ صورٍ وهو متقاذف بين أيدي زمرة من البشر يشربون نخب خوفه دما ويغنّون بصوت يشبه العويل.
كلّما كبرت الأجساد تفضفضت الملابس التي تسترها، دكّوا أنوفهم فيها، ثم مالوا نحو جهة الغرب وسقطوا صرعى، من ثنايا ملابسهم انبعثث أنغام جنائزية.. تخللت الأجساد حركة كأنّها سريان كهرباء، قامت، ورقصت حول النّار، تلك التي أشعلها سامري، وانفلت هاربا في نفخٍ من بطونٍ بَقَرَهَا كي يستنشق رائحة عقمٍ يضحك في الفضاء فوق رؤوس المارّة وينفخ في البطون المبقورة فتلد أجسادا صغيرة، تنسج قطرات من الدّمع، صفراء، وتبكي. تُصدر صفيرا ينفخ في المدينة زمهريرا فتصرخ الشّوارع بصوت كالخوار.
جروحه تسيل، وثيابه يغطيها لون العفن، يجري مهرولا تطارده كلاب، تعثّرت خطاه، دبّ التعب إلى أوصاله، زادت خطواته اختلافا، انهار على الأرض، انهال عليه كلب ضخم، غرس مخالبه في صدره، وراحت أنيابه تبحث عن كتلة لحم أنيقة تليق بليل استوى سمره وضحك فيه القمر. أحسّ بنبرةِ لهثٍ تندفع من عمق بطن الكلب. خفت جنون الكلب وبعث صوتا يشبه مواء هرّة مذعورة، انفلت على إثرها من بين مخالبه، وقام مترنّحا كأنّه يصّاعد من حفرة غائرة.. همسٌ رقيق.. خطوات خفيفة.. أضواء بيضاء وأخرى باهتة وأشباح تتحرّك تغطّيها رداءات بيضاء.. كاد يجزم ببقيّة الأنفاس التي تتدرحرج في حنجرته أنّه في عالم آخر.. من بعيد، بالكاد، فتح عينيه المرتجفتين على سمّاعة تنوس على صدر يتحرّك حوله في صمت.
تراخى في دوخانه، ولم تعاوده الاستفاقة إلا على رأس السمّاعة فوق صدره وانزلاق ابرة مدبّبة في وريده.. تماثل شيئا فشيئا لاستفاقة منتظمة.. تلمّس عينيه فإذا هي فراغ، تحسّس وجهه، فإذا هو مكتنز شحما ولحما، طالت يداه إحدى ستراته الجلدية، مزّق قطعة أخفى بها محجري عينيه.
مرّت الأيّام والسّنون وهو يعاين لذّة غريبة، توالت عليه أيادٍ كثيرة تجسّ فراغ عينيه، وتستنسغ منه سائلا أبيض، وتتفل بعد ذلك على جسده، فيخور.. تضحك الأجساد الغريبة وتغيب.. تطلع مكان البساق بثور تهيّج جلده، فيعمل أظافره في جلده.. لا يُسكن تلك الحكّة سوى بول القنافد التي كان يكرهها، حالما يلامس بلل بولها جسده تنطفئ البثور، فأصبح لجسده ريح النتانة، لم يبق في الحقيبة التي فوق رأسه سوى "زمزميات" جلبها أبوه خلال رحلته الأخيرة من البقاع المقدّسة، كان يغتسل بها تماما كما لو كان جثّة بين يدي مغسّل، فينتشي ويَشعرُه في كفن ضيّق، يأكل ويشرب ويتنفس ويتبوّل كما الأحياء.
عبرت سكرته الأخيرة قافلة.. بَدْوٌ رحّل لم يرقّوا لحاله بل قالوا عسى أن نطعم به كلابنا.. لمّا تحرّك جفلوا وكادوا يموتون خوفا لولا مدد من قوم كانوا خلفهم يعرفون ما يدور بتلك الأرض. هدّأوا من روعهم، فرجعوا وتحلّقوا من حوله، ولشدّة الظّلام لم يتبيّنوا شكله، باغتهم بالسّؤال:
من أنتم، ومن أية أرض بزغتم؟
لا أرض لنا وليس باستطاعتنا أن نحدّد لك جهة تلمّنا أو تشتّتنا.
إن شئتم لي بقية خبز حاف وشيء من الماء.. باتوا بجواري نستأنس حتى يطلع الصّباح.
قال كبيرهم بعد أن تفحّص عينيه جيّدا في حلكة الظلام:
الزّمن هو وجوهنا، والصباح للرّقص و الغناء، والليل نكمل جلبتنا عليهم، والآن سكر وغذا أمر..
سكت ثم فكر ثم قدّر وأخرج من بين الجلبة رأسا بعينٍ عوراء معصوبة بحزام جلدي، أجلسه بجانب الأجرب، ثم قال كبيرهم بعد أن تآنسوا وتعارفوا:
سوف نترك بجانبك هذا ونكمل مسيرنا.. هو يشبهك.. قد يكون أخوك أو ابن عمّك.. ثمّ ندّت عنه ضحكة لئيمة وكزّ أسنانه على حسرة وغيظ.. بعدها انصرفوا..
صارا صديقين وأصبحا يعرفان بالأعورين، واحد بلا أرض والآخر بلا ذاكرة.. في يوم من الأيّام قال فاقد الأرض لفاقد الذاكرة:
هل نلعب لعبة السّير؟
وما هي؟
نسير ما شئنا وكلما وقعت عينا أحدنا المبصرتين على شيء يصبح ملكا له.
تعجّب فاقد الذاكرة من كلام فاقد الأرض، فرغم فقدانه الذاكرة إلا أنّه يعرف أنّ عينيه فراغ في فراغ، فكيف يرى؟ رغم ذلك طاوعه وسار في أثره ملتصقا بجنبه.
سارا متماسّين تتعثر خطاويهم في بعضها البعض، وكان بصر فاقد الأرض يقع على الرّوابي والتلال والبساتين والدور الجميلة، أما فاقد الذاكرة فأينما جال بفراغ عينيه المبصر لا يقع سوى على هيئة فاقد الأرض، قال فاقد الأرض بعد زمن من المسير:
لقد أصبحت الأرض ملكي..
صرخ الثاني بأعلى صوته:
ولقد أصبحت جميعك على بعضك ملكي.. بصري لم يقع إلا عليك منذ أن مشينا متجانبين، لقد حجزت عنّي ما سواك..
أتستحوذ عليّ وأنا صاحبك في عورك وفقدانك وغربتك؟
أويعقل أن تستحوذ على أرضي؟
قلت لك إنّها لعبة.. لنرتاح إلى هذه الربوة ونكمل حوارنا في هدوء ريثما نتّفق.
انغمسا في جدال طويل، أحيانا يلفّه الغضب وأحيانا يحنو عليه الهدوء، لكن فاقد الأرض أقنع فاقد الذّاكرة بلا جدوى حاجته إلى الأرض وهو الذي كان له ماض عريق.. كان شيخ قبيلة اخترعت طرقا لحلب الماعز وتجفيف التمر وحساب الزمن.. فانتشى على وقع ماضيه المبهر، ومنذ ذلك الحين أصبح ذا حلقة يروي فيها أمجاده..
لم ينس الأرض التي نبتت من جسده الذي نهض من غرز مخالب الكلاب الضارية، وكلّما شدّه الحنين إليها، استعطف صاحبه فأغدق عليه شيئا من التراب، ثم يسلخ له جزرا متناثرة بلا معابر، تقطّعت أوصاله بينها وهو يحاول جمعها.. حينها كان فاقد الأرض يستقبل الرحّل العائدين من التّيه..
Post A Comment: