كدأبها من أسبوع مضى، كلما ساقها اللاشعور بين الفينة والأخرى وهي تدور محتبسة بأرجاء البيت، إلى قبالة مرآة غرفة نومها، وجدتها مغطاة برداء أسود، فتذكرت الاضراب الذي أعلنته عن لقاء شكلها، والتمرد على وضعه الذي لم يعد يعجبها هي، فكيف يمكنه أن يعجب جوزيف !
آه جوزيف! الذي مذ أنفقت آخر ليرات احتياطها الصرفي، بعد الشهر الثالث من تسريحها من وظيفتها، لم يهاتفها ولم يرد على اتصالتها، فاجتاحها من حينها مد جارف من الاسئلة الصعبة، “هل ساءه شكلي إلى حد اغتم قلبه” تعرفه لا يهتم بالاشكال إلا تلك المبهمة، إذ كان عشقه لبيكاسو قويا، صارخا من على جدران بيته المتواضع بالضاحية، ألواح عالقة كنوافذ تخترق الأسمنت وتنفذ بمتأملها إلى داخل عوالمها اللونية، وكلما سألته بجهلها للتشكيل، عن سبب هذا العشق، مع أن جوزيف والرسم لا يلتقيان في شيء، قال لها “بيكاسو نبيل ألا ترين الانسانية عبر أشكاله اللونية دامعة على نهديها العاريتين بأرصفة العشوئيات”!
فتصمت..!
أسرعت إلى الهاتف وجرسه يدوي بغرفتها، كانت تنتظر مكالمته بهوس غير معقول ولا مسبوق، ترى في مهاتفته لها كوة صغيرة تعبر من خلالها خارج هذا الأسر الأسود الذي أُلزمته، هناك خارج المكان والزمان لتمرح معه كطفلة في مراتع الطبيعة الأولى، تمسح بأصابعها على كل عضو ينبض بالرقة في جسدها، سيطلب منها الآن أن تجهز ليمر عليها بعد دقائق ويأخذها إلى أحد المطاعم والمقاهي الشعبية التي يحبها، ثم إلى أحد الشواطئ الصخرية لبيروت حيث الماء المالح يداعب ظهر الحجر الأخضر، بعيدا عن زحام الاجساد ونعومة الرمل الذهبي !
عبست إذ نظرت إلى شاشة الهاتف وفتحت الخط ببرودة:
- نعم..
- ما بك لمَ هذا الصوت والمتجهم..
- لا أبدا، فقط كنت أنتظر مكالمة مهمة..
- لا أنت متهجمة حتى نافذتك لم تفتيحيها لا بل سترتيها برداء أسود، مع أنك في العادة تردين على مكالماتي كلما تواصلنا ناظرة من نافذة الغرفة.. المهم ممن تنتظرين المكالمة الهامة؟
- هذا لا يخصك، أوف ألا ينتهي رصيد خطك الهاتفي حتى يخلص الناس من اتصالتك التي لا طُعم لها.
- آه فهمت الآن، لم تتصلي من يومين لأن رصيدك انتهى، حبيبتي ما الفائدة من انتظار مكالماته إذا كان عاجزا عن أن يعبئ رصيد هاتفك، فأنى له بتعبئة رصيد حسابك البنكي؟
- ألهذا اتصلت؟
- لا أبدا..
- وإذن؟
- اتصلت لأني رأيتك هذا الصباح تعيدين باكرا كيس الزبالة إلى البيت، وأردت اخبارك بأن عمال البلدية قد أوقفوا اضرابهم وعادوا من ساحة الاعتصام، وستمر شاحنة جمع الأكياس هاته الظهيرة!
فاض بها الحنق والغيظ، تذكرت أنه إذا لم يكن بوسعها أن تتصل بسبب انقضاء رصيدها منذ ثلاثة أيام، فبوسعها، ولحسن الحظ، أن تقطع الاتصال مع كل صوت مزعج، فضغطت بكل قوى إبهامها على الزر الأحمر بلوحة مفاتيح هاتفها، منهية المكالمة ثم ألقت به على سريرها البارد..
لم تطق أكثر هذا السجن الذي تسبب لها فيه إفلاس الشركة حيث اشتغلت مذ عادت إلى بيرت من ديار الغربة، فازداد سواد الاستار السوداء التي وضعتها على زجاج النوافذ والمريات بالبيت، ولما أن أحست بصمت رهيب يجثم على مسمعها، دوى هاتفها فارتج قلبها..
- جوزيف حبيبي
- نعم حبيبتي..
- لمَ هذه القطيعة الطويلة؟
- لا أبدا، أجريت عمليات جراحية على وجهي شابتين من المتاظهرين أصابهما رصاص الشرطة أثناء محاولة فض الاعتصام بالساحة..
خجلت من وجهها الذي اشكتت مطولا للمرآة تجاعيده بسبب غلاء اسعار المستحضرات في محلات بيع أدوات الزينة، طفقت تدعك المناطق التي طلتها للتو بالكريمة من بقايا المرهم الذي استعادته من لحظات من كيس الزبالة بعد أن أعادته باكر هذا الصباح إلى البيت!
- لكن شرين زوجة أخيك كلمتني من لحظات تسخر منا نحن الاثنان!
- ليلة البارحة فقط اتصلت تطلب معونة مالية لتصفف شعرها..
لم تعد تعرف مصدر الفرحة التي اشرقت في نفسها من تحت البيت المغطاة زجاج نوفذه وصحون مراياه بالقماش الأسود، شعرت بالتجاعيد تتطاير من على وجهها وهي تغسله بالماء قبل أن تسرع بالنزول إلى الشارع!
كادت تتدحرج من على دروج سلم العمارة، أعادت الكيس إلى موضعه، أستشرفت شمس الظهيرة الدافئة وهي تنثال على رأسها مشعة بخصلاتها البنية، سوت محفظتها الجلدية البارسية اللامعة وهي خاوية هاته المرة من قاروة العطر وطلاء الاظافر، فقط مرآة صغيرة وهاتف من غير رصيد، ثم استقامت واقفة ، مشكلة بظلها على الرصيف في ابتسامة من تحت نظاراتها المسديرة، عمودين غير متساويين مع لوحة الاشارة باتجاه ساحة الثورة، تنتظر جرس سيارة جوزيف.
Post A Comment: