كانت اللحظة التي توقف فيها " فاوست " عن القراءة فجأة ، وقد شعر بالأسى على سنوات شبابه التي قضاها بين جنبات الكتب ، هي ذات اللحظة التي تمثّل له فيها الشيطان ميفستوفيليس ، مقدماً العرض الأكثر خُبثاً ؛ عندما وعده بتحقيق طموحه العلمي والمعرفي المطلق وإشباع رغباته بملذات الدنيا ، مقابل أن يهبه أربعة وعشرين عاماً من سنوات شبابه ، ليبدأ فاوست بعدها بعيش حياة مليئة بالإنجازات التي كان بعضها مدمراً للآخرين ، وقد اعتدى على أرواح الكثيرين ، وما أن حانت لحظة المقايضة ، حتى بدأ يحاول إنقاذ روحه باكياً نادماً ، ليدرك أن كلّ ما اكتسبه من مآثر ما هي إلّا أوهام زائفة ، وقد أغواه الشيطان ليسبب الألم للآخرين على حساب إنسانيته ، وأنا أتساءل اليوم حول الدافع الذي أدى بالكاتب والفيلسوف الألماني " يوهان غوته " ليكتب رائعته " فاوست " في القرن 19 ، ولم تكن البشرية قد خطت سوى خطوات متواضعة على طريق العلم والصناعة وهيمنة رأس المال ، لكنّ الفاوستية على ما يبدو أصبحت واقعاً متجسداً في جسم الحضارة التي أعقبت الثورة الصناعية ، وهي آخذة بالتوغل في عمق الإنسانية مع تسلسل ثورات الصناعة ، حتى وكأنّ شعوراً بالنرجسية الحضارية أصبح يُلازم الحضارة المعاصرة ، وهو ما تناوله " شبنغلر " في كتاباته فبرأيه أنّ النزعة العقلية استولت على المسار الثقافي والفلسفي للحضارة الغربية ، ويبدو أنّ غرور العقل البشري قاده إلى انتكاسة لزجة في عالم المادة ، مبتعداً عن القيم الروحية ، ليصبح الكمّ لا الكيف ميزاناً للنجاح ، ومع الغرق أكثر في ذلك العالم ، ومع سيطرة " القيمة النقدية" على لغة التواصل بين البشر ، كانت التفاهة في هذه الأثناء تتسلل عبر تفاصيل الحياة اليومية ، وتمتد عبر المسافات في عصر العولمة ، حتى باتت تُهيمن بشكل واضح على كثير من مفاصل الحياة ، وخلف كلّ تفاهة ، تفاهة أكثر تفاهة من سابقتها ، حتى باتت التفاهة الكلمة الأكثر جدية في مهزلة تكاد تطال كلّ ما يمسّ حياة الإنسان .
وفي واقع الأمر أنّ الحديث يتعدى كونه صراعاً بين الأجيال ، أو صداماً بين الثقافات ، فالقضية باتت مؤرقة لكل من يمتلك فكراً يحتكم إلى المنطق والعقلانية ، فما يشاهده المرء غالباً عبر شاشات التلفاز ، أو تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي ، وما يخترق السمع عبر أثير بعض البرامج الإذاعية ، وما يدور من حوارات هنا وهناك بين مختلف الفئات والأعمار ، كفيل بأن يُثير الآلاف من علامات التعجب ، فأنت لا تنفك عن التساؤل حول جدوى التكاليف الخيالية التي تُنفق سنوياُ ، وبإصرار لم تمنعه حتى ظروف الوباء ، أو الحرب ، أو الأزمات الاقتصادية ، على برامج تتمحور غالبا غايتها في اختيار الصوت الأجمل ، أو الممثل الأبرع ، أو الموهبة الأفظع ، أو الفاشينستا الأبدع ، وقد يكون بعضها جدياً في البحث عن الطباخ الأمهر ، أو مصمم الأزياء الأوحد ، ليتحدى بعضها ظروف الكورونا في محاولة الكشف عن النجم الذي يُغنّي من خلف القناع ، وما أهون القضية هنا ، فإذا ما تنقلت بين تطبيقات السوشيال ميديا ، وتعرفت إلى ما يُلقى على بعض صفحاتها من تفاهات وسخافات ، وأكثر أصحابها يتسابقون في اعتلاء عرش الترند ، وتقدم صفوف اللايكات ، والكل يتحصن خلف حرية التعبير ، أو الحق في المساواة في الظهور وتقديم ما بجعبته على مبدأ " ما حدا أحسن من حدا " ، فيتلوّن بألوان الحداثة ، ومحاكاة الثقافة العالمية التي عبرت القارات ، واستوطنت جغرافيا الكوكب ، دون النظر سوى في القشور ، ليغدو الدخول إلى تلك الصفحات ، أو التنقل بين تلك البرامج محض هلوسات ، حيث يبدو الواقع بعيداً تماماً عن الحياة خلف الشاشات.
وفي حقيقة الأمر أنّ المسألة مثيرة للخوف والقلق ، فتلك الحياة المزدوجة بين الوهم والواقع لا تتعلق فقط ببعض البرامج المتلفزة ، أو الحراك المجنون على التطبيقات الرقمية ، وإنما يتعلق بذلك الانهيار الصامت للكثير من القيم والمعايير التي تحكم السلوك الإنساني ، وتكريس مظاهر الفساد ، والترويج لكل ما هو مخالف للفطرة الطبيعية التي لن تنتهي إلّا في هلاك البشرية وفنائها ، فالإنسان الأخير- كما لقبه " نيتشه " - أصبح مغتراً بإنجازاته العلمية ، مستسلماً لشرهٍ لا متناهٍ من الجوع العقلي للسيطرة والهيمنة ، إلى درجة تصوّر معها أنّه تمكن من اكتشاف إكسير الشباب و الخلود الدائم ، وإلى حدّ بات الحديث فيه عن الفناء أو التراجع أو الانهيار الحضاري ضرب من الخرافات ، وكأنّ كلّ ما يأتي عبر أعالي البحار صحائف سماوية منزهة عن النقص ، ومقدسة حدّ الإيمان المطلق ، فهُيء كلّ ما هو خاوٍ و شاذ ومصطنع وأجوف على أنه عقلاني وأخلاقي ، وهو ما يُعيدنا إلى حيث انتهى "فاوست " وقد استولى الشيطان على روحه ، وهو ما أسماه " ابن خلدون " بفساد المعاني الإنسانية" ، مشيراً إلى الحالة التي تدوم فيها الحضارة وتترسخ لتبلغ الغاية في الترف والدعة ، لتعلق في حالة " الاستفحال " ، أي تفاقم الحالة الحضارية وانتشار مظاهر الترف والفساد فيها وسعيها نحو الخلود في زمانها ، في موقف يقترب من حالة " الاحتقان التاريخي " كالمتربع بطلاً على قمة مدببة إلى مالا نهاية .
ومن الواضح أن أغلب ما بات يسيطر على اهتمامات نسبة كبيرة من البشر في أصقاع الأرض ، يُغرِق في السخف والتفاهة ، ويُبحِر إلى حيث اللامبالاة ، ويسعى نحو أفق من الخواء الفني والثقافي والقيمي ، إلى حدّ لا يمكن التغاضي عنه ، فأنت بالتأكيد لن تُنكر مقدار الجهل والسطحية والاضمحلال الذي أصبح يطغى على بعض ما نشاهد ونسمع ونختبر يومياً عبر بعض الإعلام والفنون ووسائل التواصل الافتراضية ، والمؤلم أنّ السؤال يقودنا دائماً إلى عبارة " الجمهور عايز كدا " ، ليتفاقم الأمر بأن قانون السوق هو " النمبر ون " ، فالإعلام ، والفنّ ، والمدونات ، ومختلف التطبيقات الإلكترونية ، جميعها محكومة بقانون السوق ، وتخضع لمبدأ الربح والخسارة ، ومع استمرار السقوط في فخّ الهيمنة الربحية ، ونزوع القيم الفردية ، والسيطرة العقلية التي هربت من رقابة الضمير ؛ أصبحت التفاهة غالباً عنواناً للمنتج الثقافي ، ومطلباً لهواة الشهرة والمال والأضواء ، لنتفاجأ بنموّ مجتمع استعراضي ، الحضارة فيه " فُرجة " كبيرة تحركها تجارة إعلامية ضخمة ، فثقافة وسائل الإعلام الحديثة في جزء كبير منها تبدو مبتذلة ، مع تراجع دور الكلمة ، وتقدم الأضواء والخلفيات الجرافيكية والمؤثرات الصوتية نحو المقدمة ، حتى أنّ قيمة المثقف أصبحت تُقيّم بناء على محاكاته للبهرجة الإعلامية ، في سيرك صاخب مليء بالاستعراضات و المهرجين ، حيث تتوالى فقرات التسلية والترفيه ، بعد أن استُبعدت القيم والمضامين عن المسرح الثقافي ، في احتفاء دائم بتحويل كلّ ما هو قيمي ومعنوي إلى مادي وسلعي ، فما هي الفرصة الجماهيرية التي يمكن أن يتمتع بها برنامج يستضيف مفكراً أو كاتباً أو مؤرخاً أو باحثاً في علوم الأوبئة حتى ، في مقابل عرض للأزياء ، أو مسلسل كوري مثلاً ، أو لقاء مع أحد مشاهير التحديات والسيلفي على صفحات السوشيال ميديا ، أو حلقة في برنامج نجوم الواقع !!! .
لقد لفتت عدوى التفاهة عالم الاجتماع الكندي " آلان دونو " ، مُعتبراً أنّ التغاضي عنها يعني تسليم البشرية إلى مصير كارثي ، فبرأيه أنّ الخريطة الاجتماعية أصبحت تحت سيطرة التافهين ، وقد اخترقوا مختلف المجالات ، في واقع يشبهه بتشكيل شركة كاملة من التافهين والجاهلين وذوي البساطة الفكرية ، وكلّ ذلك لخدمة أغراض السوق بالنهاية ، والواقع أنّ دونو مُحق تماماً في طرحه ، إذ تكاد تشعر بوجود نظام اجتماعي أو اقتصادي أو كلها معاً ، يسعى إلى ترسيخ التفاهة وتتويجها على عرش الفكر والثقافة ، فما هو عدد البرامج أو المهرجانات التي تتخصص في تقييم الأداء العلمي ، أو الأدبي ، أو الفكري ، وتكريم المبدعين من أصحابها ؟ ، وما نسبة رجال الأعمال والشركات والمؤسسات التي تدعم تلك المهرجانات ؟ ، وهل تحظى تلك المهرجانات بالتغطية والإضاءة اللائقة إعلامياً ، إلى الحدّ الذي يستقطب الجمهور ، ويسترعي انتباه الناشئة ؟ الإجابة دون شكّ ستذهب لصالح الكثير من البرامج التي تُكافئ التفاهة في غالب الوقت ، فالفن يشكو من سطحية أو رداءة كثير مما يُطرح سواء في مجال التمثيل أو الغناء ، والإعلام في كثير من البرامج يستقطب كل ّما من شأنه رفع نسب المشاهدة وباالتالي الدعايات الترويجية ، أمّا الإنتاج العلمي فهو يعاني غيبوبة عميقة ، لا يستيقظ منها إلّا على صعقات الشركات التجارية ونهمها للمال والسيطرة ، ليتجسد الكتّاب والشعراء والفلاسفة والمؤرخين والمفكرين كُتبأ ومؤلفات تعرضها الأكشاك على الأرصفة ، لمن رحم ربي من بين المارّة .
ومع تبدل المعايير ، وانحدار مقاييس الجودة الثقافية ، ومع تحويل الثقافة إلى سلعة قابلة للبيع والشراء ، وخاضعة للربح والخسارة ، فقد أصبح تحويلها إلى أداة للترفيه والتسلية ضرورة رابحة ، دون اعتبار لمستويات الإبداع ، وأسس النقد والتقييم ، فأصبح النجاح مرتبطاً بعدد الإعجابات ، ونسب المشاهدة ، التي تُعبّر عن مقدار الإقبال على المحتوى المعروض ، وهكذا فإنّ الأفراد ضمن هذه المعادلة يتلاهثون خلف خدع بصرية ، يتخذون من شخصياتها رموزاً لهم ، تلك الشخصيات التي كذبت الكذبة وصدقتها ، حين اختار الواحد منهم أن يحيا بحسب تصوّر الآخرين له ، لا كما هو في الواقع ، ضمن صورة جرى إعدادها وتعديلها وتلفيقها ضمن متطلبات السوق ، ومعايير الثقافة الوهمية السائدة ، ونحن هنا نكون قد وصلنا اللحظة التي تحدث فيها " جي ديبور " ؛ وقد احتلت السلع الحياة الاجتماعية كلياً ، في ديمومة استعراضية لا يكاد المرء يرى فيها سوى السلع ، دون اعتبار لقيم الإنسانية ، أو التجلي الإبداعي ، ونحن لا ننكر حقّ الأفراد في الترويح عن النفس أو التسلية ، لكن أن تُصبح التسلية هدفاً لكلّ نشاطات الحياة فهو الخطر بعينه ، الأمر الذي يتطلب توجيه المزيد من الدعم نحو إنتاج برامج إعلامية تُعنى بالإنتاج العلمي والأدبي والفني والثقافي الجادّ ، على أن تحظى بذات البريق الذي يُحتفى من خلاله بالتفاهة ، فالنشء الحالي لم يعي سوى تلك التفاهات التي يرى ويسمع ويتابع على الشاشات المتلفزة والذكية ، فكيف له أن يُدرك وجود القيم ومختلف المعاني التي غُيّب عنها ، وهو في برمجة دائمة على تقبّل التافه والسخيف ، والأمر في استفحال إلى درجة أصبحت معها منتهى الرحمة أن نختبر التفاهة هنا ، لأنّ ثمة ما هو أكثر تفاهة هناك .
لقد أصبحت الإنسانية قريبة من الوقوع فريسة اللعنة التي عاقب بها زيوس سيزيف ، بعد أن قادته عجرفته بأن ذكاءه لا حدود له ، فكان لزاماً عليه أن يحمل الصخرة من أسفل الجبل إلى قمته ، فما أن يقترب من القمة حتى تسقط الصخرة إلى قعر الوادي ، فيعاود حملها من جديد ، في عذاب أبدي متجدد ، فحالة الاحتقان السائدة الآن ، ستزول حتماً ، لكن بعد أن تتدحرج صخرتها ببطء نحو المنحدر حيث انتهت كلّ الحضارات التي عرفها التاريخ ، بعد أن غرقت في مستنقع مضمحلّ من السخافة وضياع القيم .
Dr.Amer.Awartani@Gmail.Com
Post A Comment: