ميراث ثقيل:
الاحتلال الانجليزي لمصر.. ثقيل على المصريين بعامة وليس على توفيق ابن إسماعيل فقط الذي شكا حمله الثقيل لوزيره ورغبته في النهوض بمصر برغم أنها مثقلة بديون والده الذي استبد بحكم مصر ووضعها تحت أمرة شهواته وسلوكه الأهوج الذي خرج عن الحيدة والنزاهة وعبد الطريق للمحتل حتى لا يجد صعوبة في استلام مصر على طبق من ذهب حتى وإن لم يتقصد ذلك صراحة ولكن الواضح الجلي أنه رهن اقتصاد الدولة المصرية لرعونته وعدم تحمله الفعلي للمسئولية فجاء المحتل بصفته في حياته ليذق ذل الانحناء والتهميش والإقصاء له.
ومع تولي ابنه توفيق كان استشعاره لجسامة المسئولية لا يقل عن شعور المصريين بذلك، فعاد الحديث مجددا عن أهمية مجلس شورى النواب ليحاسب الحكومة والخديوي على حد سواء فوقف الخديوي توفيق إبراء لذمته وتعبيرا عن رغبة حقيقية بالخروج بهذا البلد من عنق الزجاجة أمام هذا المجلس قائلا:
«إن العناية الإلهية سلمت زمام الحكومة المصرية إلى يدنا فضلا منه وإحسانا فقد تشرفنا بأمر شريف بذلك من متبوعي الأفحم وسلطاني الأعظم نصرة لله، ولعلمي أن الحكومة الخديوية يلزم أن تكون شورية ونظارها شورى النواب وتوسيع قوانينها لكي يكون لها الاقتدار في تنقيح القوانين وتصحيح الموازين وغيرها من الأمور المتعلقة بها……..ألخ»
كان هذا الاجتماع في 3/7 وانفض في 5/7 ولم ينعقد شهورا وشهورا لأن السيف سبق العزل، فالكلمة العليا في الدولة المصرية كانت للمراقبين الأجنبيين وليست للخديوي وحكومته ذو الميراث الثقيل، فالخطبة العصماء التي ألقاها الخديوي أمام المجلس والنوايا الحسنة أو الصادقة لا تكفي أمام بلد سلم فعليا للمحتل في حياة إسماعيل، فقد كره المراقبان وكذلك القنصل الإنجليزي والقنصل الفرنسي أن يكون لهذا البلد مجلس شورى يصبح له الكلمة العليا فيها وهما اللذان يتمتعان بهذه الميزة، فهم أصحاب الكلمة العليا على الخديوي ورئيس الوزراء وقد تغلغل نفوذهما في دوائر الحكومة كاملة وبالتالي هم أكثر الكارهين لهذا المجلس، وبالتالي إزاء هذا الوضع لم تصمد وزارة شريف باشا سوى أياما قدمت بعدها استقالتها وترأس الوزارة الخديوي توفيق بنفسه ثم استدعى رياض باشا من أوروبا لتولي رئاسة الوزراء فكانت وزارته جنينا مشوها لم يذكر دور الوزراء ولا مجلس الشورى ولا اختصاص كل وزارة، وظلت هذه الوزارة المشوهة سبعة أشهر لم يجتمع فيها المجلس ولم تمثل هذه الحكومة للمساءلة ولم يفي الخديوي توفيق بما قطعه على نفسه من عهود، فكانت هذه الوزارة من أجل أسباب التذمر والاضطراب الذي ساد البلاد فطالب الضباط بزعامة أحمد عرابي بعزل عثمان رفقي ناظر الجهادية لأنه يعين الضباط الشراكسة في المناصب العليا دون المصريين (وهذا دأب الحكام منذ محمد علي) فكانت هذه الفعلة شرارة بدء الثورة العرابية خاصة وأن دبجت مطالب المصريين بعامة في منشور بيد أحمد عرابي يطالب فيه بضرورة وجود الحياة النيابية في مصر من مجلس للأمة ودستور للبلاد وممثليين شرعيين منتخبين من الشعب، ممثلين له مطالبين بحقوقه المشروعة وجعل مفاصل الدولة المصرية بيد المصريين وليست بيد الأجانب، ثم تجمع الضباط في ساحة عابدين يتقدمهم أحمد عرابي محاطا بحرسه ليقابلوا الخديوي، وأمر عرابي الحرس بغلق الأبواب حتى يمنع الدخول والخروج من القصر وإليه، فأمره توفيق بالترجل ووضع سيفه في غمده وإبعاد الضباط عنه ففعل ودار هذا الحوار بينهما:
توفيق: ما هي أسباب حضورك إلى هنا بالجيش؟
عرابي: للحصول على طلبات عادلة.
توفيق: وما هي هذه الطلبات؟
عرابي: إسقاط النظارة وزيادة عدد الجيش، والتصديق على قانون العسكرية الجديد، وعزل شيخ الإسلام.
ثم أمهله توفيق حتى يستشير قناصل الدول (استمرارا للمسخرة) فوافقوا ولكن على مراحل (احتواء خبيث) فرضي بذلك عرابي ولكن لن يمضي ورفاقه قبل عزل وزارة رياض وتعيين شريف باشا بدلا منه فوافق الخديوي على شرط أن يطيع قادة الجيش أوامره وأن يضمن له الأعيان ذلك فوافقوا.
والحقيقة أن هذا الإرجاء تم به احتواء عرابي ورفاقه وتم القضاء على الثورة في حينها فالعوار واضح أمام أعينهم ومع ذلك تجاهل عرابي ورفاقه الكلمة العليا والبت في الأمر لا يتم إلا عبر قناصل الدول فأي خزي بعد هذا؟
تولى شريف الوزارة وعقد اجتماع مجلس شورى النواب ولكن خطاب شريف كان معيبا كما أن ثورة عرابي كانت معيبة، بالتالي فلن يكون شريف ساحرا أو نبيا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، عرض برنامجه في رغبته في رفع الأعباء عن كاهل المصريين ولكن دون المساس بحقوق المراقبين، فهما وحدهما من لهما التصرف في الأمور المالية كما لا يمكن المساس بمصالح هذه الدول، فلم يختلف الأمر كثيرا عن وزارة رياض ذلك لأن سوط الدائنين كان يلهب ظهور أي وزارة ويتحطم على صخرته أي رغبة حقيقية في التغيير.
ورغم العوار والعجز اللاحق بحكومة شريف فإن إنجلترا وفرنسا كانتا تكرهان مجلس النواب ووجود حكومة وطنية وقام العديد من الكتاب (أو بالأحرى مستشرقين) يحقرون من شأن أي استقلال حقيقي للشأن المصري فقد تعودوا منذ إسماعيل أن يتحكموا في الدولة المصرية، لذا أعلنت إنجلترا وفرنسا المراوغة والرغبة الصريحة بعدم أحقية المصريين في ممارسة الحياة النيابية بشكلها الأوروبي على الأقل في الوقت الراهن نظرا لكونها مدينة لهما، هنا صار تحريض الخديوي توفيق ضد المصريين الذين يريدون أن ينسوا أنفسهم “ويشبوا عن الطوق” ويعدونه بالحماية فكان رد الخديوي توفيق عنتريا وضجيج دون طحين كالآتي:
“إن اليوم الذي تؤيدني فيه الدولتان ضد إرادة بلادي هو اليوم الذي تحين فيه الساعة الأخيرة، ومتى فصلت الرأس عن الجسم لم يبقى فيه إلا إلى الموت،فأنا إما أن أكون خديوي المصريين أو لا أكون شيئا”
ولكن ما إن علمت فرنسا عن موقف الخديوي توفيق ورئيس الوزراء شريف باشا حتى طالبتهما أن يعدلا عن موقفهما أو يلتزما الصمت فأطاعا وسكتا، ولكن تركيا لم تسكت وإنما أرسلت للدولتين بمذكرة قالت فيها:
«إن مصر جزء من ممالك الحضرة السلطانية، والسلطة المعطاة للخديوي هي لحفظ الراحة العمومية عند اللزوم وللمحافظة على سعادة البلاد وإدارتها على محور حسن، فتأييد هذه السلطة من حقوق الباب العالي وحده ومن اختصاصاته دون سواه، ولهذا كان من الواجب أن الحالة تدعو إلى إرسال تلك المذكرة أن يؤخذ قبل كل شيء رأي الدولة العليا، وبواسطتها وخدها ترسل التصريحات وبواسطتها أيضا يكون الحصول على التأكيدات المطلوبة».
بالطبع كان الباب العالي يريد أن يبسط نفوذه ويحافظ على هيبته ولكن فات أوان هذا الإجراء، فالتداعي والانحدار الذي أصاب مصر كان من الممكن تداركه من قبل أن يستفحل المرض ويصبح عصيا على العلاج، وبعد سجال وتبادل الاتهامات بين إنجلترا وفرنسا فضح مراسل جريدة التايمز بأن تحركات وتجهيزات عسكرية تم الإعداد لها في جنوب فرنسا قبل احتدام الأمر مع الخديوي توفيق وشريف باشا بما يعني أن الأمر كان محسوما باحتلال مباشر لمصر وهو ما دعا وزارة جاميتا (رئيس وزراء فرنسا) إلى تكذيب الخبر وطالبت جريدة التايمز بذلك فردت الصحيفة ببيان باسم القائد العسكري الذي سيقود هذه الحملة والأسلحة الحربية التي أعدت لذلك والوحدات العسكرية.
كان مجلس النواب قد عقد وأعد جدول زمني به يتم سداد ديون إسماعيل باهظة الفائدة، وكان بلنت نفسه وصف هذه الجدولة بالموضوعية ولكن إنجلترا وفرنسا رفضتا هذا المقترح لأن لديهما النية المسبقة بالقضاء على هذا المجلس كنبتة لحياة نيابية في مصر تقود لما بعدها من الصعود إلى مصاف الدول ذات الدستور والتمثيل النيابي، وليس ذلك فحسب بل إن بلنت وصف الدولتين بالمتحرشتين والراغبتين في الاستيلاء على مصر مع الفارق أن إنجلترا كانت تريد الانفراد بهذا الفعل بينما فرنسا كانت تود أن تشترك أوروبا بأكملها فيه ربما لإخفاق نابليون في حملته السابقة.
وللحديث بقية إن شاء الله
Post A Comment: