أصدر الدكتور وليد خالدي كتابا نقديا بعنوان "مقاربات نقدية بعيون حداثية"، عن دار خيال، جمع فيه قراءات "في الخطاب السردي العربي المعاصر"، يرى في ما يسمّيه "بمثابة التّقديم" أنّ "الإبداع العربي بمنحوتاته الفنّية المتنوعة حقق قدرا كبيرا من حيث التأليف لا سيما في مجال السرد..".
وفي حقيقة الأمر أنّ اعتراف الناقد هذا لا يزكي بقدر ما يحمّل الإبداع العربي مسؤولية التجاوز والمبارزة في حلبة الحراك السردي العالمي، ومن جهة أخرى يضع على كاهل القارئ العربي مسؤولية "الغربال" بتعبير ميخائيل نعيمة، وهو ما يتطلب من الذائقتين التعبيرية والنّقدية الإلمام بما يدور في ساحات السرد العالمي ومحاولة استيعاب حركته لإنجاز الخصوصية، فــ"السردانية العربية قطعت أشواطا كبيرة داخل أفقنا المعاصر من خلال تتبعها لمجريات الأحداث والوقائع..".
إنّ وليد خالدي حين يصدر هذا الحكم في ما يتعلق بجدوى السرد العربي، إنّما كان ذلك من خلال معاينة ومتابعة للإنتاجية السردية، فعلى مساحة كبيرة من صفحات كتابه تطرّق إلى عدة نصوص لمبدعين جزائريين وعرب قاربوا الرّواية من خلال زوايا مختلفة، فعندما يعرّج على مجموعة القاص حسين فيلالي مثلا "ما يشبه الوحم" يدرك "نظام اللاتجانس اللساني في تشكيلاته الترميزية وأساليبه التعبيرية وصيغه الفنّية"، وهذا نظرا لأنّ المعطى السردي الفني يقوم عند حسين فيلالي ناهضا من ذات ساخرة وبيئة محيطة عميقة في الرّيفية وقاموس ينهل من ذاكرة تختزن الماضي كما دعابة لا يمكن تجاوزها لأنّها تحرك الحاضر المأزوم في تقهقره.
أما عندما يقارب الرّوائي السوري زياد كمال حمامي في أحد أعماله، يرى أنّه "يرصد حفريات الحرب في أدق تفاصيلها.."، وهو ما يحيل إلى أهمية الواقع في تخييل الفضاء الرّوائي، وجثم الرّاهن بثقله على وعي الكاتب، بحيث يصبح الواقع أو واقعية العمل السّردي لا تعبّر عن اتجاه معيّن، ولكن تتأسّس كعنصر من العناصر الفنّية التي تؤثث المشهد السردي.
أما مقاربة القاص الأردني جعفر العقيلي، يجعلها سيكولوجية، إذ يقيم القاص "بين المقروء واللامقروء علاقة دياليكتيكية متبادلة تضفي على النص شكلا فنّيا يستدعي قراءة دينامية"، بما يعني انخراط التلقي في لعبة السرد من وجهة نظر القاص، وهو ما لا يمكن تفكيك مجرياته إلا عبر "المقاربة السيكولوجية" باعتبار السرد يتحوّل نسيجا يشكل سداه التواطؤ الجمالي في انبثاق الكتابة كمشروع إبداعي وتجلي التلقي كمشاركة جمالية.
يعود إلى الواقعية باعتبارها عنصر فنّي مع قراءة الرّوائي الجزائري رفيق طيبي في "ليل الغواية"، إذ يؤكد على أنّ الكتابة لكي تكون ذات مغزى "يجب أن تحفر لها أساسا داخل الواقع معبّرة عن مكابدة شاقة وعسيرة، وبشكل خاص، تنبئ عن لحظة من لحظات إشراق الوعي لدى الكاتب أو المبدع.."، فالمواجهة بين المبدع والواقع، لا تتأسّس فقط لنقله أو لتحويله على الأصح عبر وسيط الفن إلى جمالية سردية أساسها التخييل، ولكن لأجل الوقوف على العسر والمشقة التي تقع فاصلا إجباريا في علاقة الذّات بالواقع، ومن ذلك تنبثق لذّة التجربة، وهو ما يميّز ما يعيشه المبدع من متعة في خلق منجز الكلمات التي تنتظم في تشكيل مفعم بالدّلالة والرّمز والتأويل.
يتعرّض الباحث للسرد النسوي من خلال الفاعلات في مجاله، كجميلة زنير، جميلة طلباوي، عائشة بنور، فاطمة العقون وحياة حسين البوسالمي، معترفا أن "الخطاب النّسوي كان ولا يزال يطرح العديد من الأسئلة الشائكة والمعقّدة مما جعل منه موضوعا جديرا بالاهتمام.."، وهو ما يمثل من الناحية السيكولوجية بالنسبة للسرد الأنثوي صمام الأمان أمام المواجهة الذكورية التي تستأثر بالمجال السردي اعتبارا من كينونة السرد بالطبيعة والبداهة كإنتاج ذكوري، إذ غالبا ما يضطلع الرّجل باعتباره كاتبا وراويا وساردا بالتعبير عن الكينونة السردية في تجلياتها الأنثوية، أيضا كعارف مهيمن، ومن هنا يصبح الخطاب النّسوي نسقا ضروريا للوضعنة الأنثوية داخل فضاء الكتابة باعتبارها فواصلا مختلفة ذات أنساق جوهرية. لكن خالدي وليد يعتبر أنّ "من بين الدوافع التي أفرزت في وقتنا الرّاهن ما يسمى بالأدب النّسوي مرحلة ما بعد الحداثة"، وهو ما لا يستسيغه البعد التاريخي والأنطولوجي في تشكل أبعاد الخطاب النّسوي كنسق يعبّر عن خصوصية ما داخل الفضاء السردي، ليس باعتبارات الذكورة والأنوثة، ولكن باعتبارات الجدل القائم بين طبيعة حدود السردين حسب مصدريهما، فما تفصح عنه الأنثى قد يكون أشد التصاقا بعالمها حيث لا يعرف خبره سواها، وهو ما يجعل الخطاب النّسوي من حيث كينونته سابقا على معطيات ما بعد الحداثة.
Post A Comment: