إذا كانت المرآة هي أذاتنا الصامتة لمعرفة واقع شكلنا قبل الخروج إلى الأمكنة العامة، فإن هاته الأخيرة هي شكل واقعنا الذي يجردنا من ذاتيتنا وإرادتنا، ويفرض علينا ركوب الموج العاتي للتيار الجماعي الذي يسمى التاريخ، من خلال ما ينعت بالموضة، وبالتالي فليست هاته الظاهرة، سوى استمرار لصناعة التاريخ بجبروته واغراءاته، بأسواقه وسياقاته، بيد أن السؤال الكبير الذي ينطرح هنا هو من يصنع الموضة؟ تماما مثلما ينطرح السؤال الكبير من يكتب التاريخ؟

في فيديو نشرته طبيبة أطفال هولندية اختارت التحول الاسلام وارتداء الحجاب، أكدت أن أهم شيء استراحت منه بعد اسلامها هو تحررها من هاجس الموضة وإيقاعها السريع في السنوات الأخيرة، بحيث أنها كانت كما أشارت، تشتري أحيانا ألبسة، وما أن تترديها مرة واحدة إثنين، حتى تجد نفسها مرغمة على تركها وشراء ما تنشره وسائل الاعلام والاشهار من صرعة جديدة في مجال الالبسة!

كلام الطبيبة يحيل بالضرورة على سؤال المقدمة، من يمتلك مصير الموضات، كأحقاب لتشكل الفرد في العالم والعالم في الفرد، إفناء وإنشاء؟ لا أحد يمتلك الاجابة، لأن لا أحد يطرح السؤال، وثانيا، لأن الموضة كما غيبيات الانسان في صتاعة عوالمه المتحررة من كل مرجعيات، لا تخضع للتعاريف وتصنيف بل تأتي هكذا بغتة وتبهتنا، فنجتمع على قصة شعر واحدة، ونمزق السروايل من قبل ومن دبر، ونكشف عن سرة ثم نضع وشما على الكتف ونسدل القيمص في تلك المنطقة كي ينكشف.

وعندما تتهاوى قوة الدفع الزمنية للموجة وتنهار الموضة السابقة على نفسها، لا ندري أو نتساءل كيف تهاوت وماتت، بل نكتشف ذلك من خلال صور الالبومات، فنتذكر، كيف تشبهنا بها وكم دفعنا فيها من مال لشراء، ذلك الحذاء، وتلك العباءة، أو التنورة، فنضحك ونسخر لا مما دفعنا من مال بل عن أحوالنا وأشكالنا في ركب تلك الموضة.

واضح إذا هنا أننا بصدد انفعال داخل حركة التاريخ وتدافع من غير وعي ولا إرادة، فطاحونة الاستهلاك مثلما تفرض منطقها وأيقاعها الجهنمي في أسواق المادة والغذاء، تفرضه وبأثقال مضاعفة من المال، في أسواق لا ترصدها، كما هو الشأن مع الذهب، والمال والنفط، نشرات المؤشرات رغم هول انتشارها وحجم محصولها، كونها تمتد عبر كامل أرجاء المعمورة.

ولغرابة الشأن، فإنه مثلما ينطرح سؤال أنبثاق وسقوط الموضة، ينطرح السؤال من يكتب التاريخ؟

فإذا جزمنا بأن الموضة هي أحدى التعبيرات عن شكل التاريخ، تنصرم عن مراصد كشف الولادة والموت، فإن التاريخ الذي نتناوله في سرديات المدارس والثانويات والجامعات، لا نملك لمصادره مراصد، بل لا نملك القدرة على السؤال عن مصداقية سردياته تلك، ونكتفي بأن نرتضيها ونرتديها كملابس الحقيقة التاريخية!

حسبما يُفهم من كلام الطبيبة الهولندية تلك، فإن الحرية اليوم، ليست هي تلك التي تتضمنها مجادلات فلسفية فارغة من التجربة الواقعية، ولا هي تلك التي تجدول عناوينها صحف ووسائل إعلام، تمولها شركات صناعة الرأي العام وفق منطق اللحظة التاريخية المعاشة منطق الاستهلاك المادي في الشكل والمضمون، الذي يستنزف وقت ومال الانسان، إنما الحرية هي تلك التى يستشعرها المرء حين يفلت من قبضة أسواق الاستهلاك تلك.

ولعل  ذلك كان من أسباب كره أنصار العولمة للاسلام بوصفه شمولي لأبعاد التاريخ، يحول دون الهيمنة على إرادة الفرد داخل أسواق الأشياء التي باتت تتحكم في مصيره وتحول دون أن يجد له متسع زمكاني يتفكر فيه ويتأمل معنى وجوده في هذا المنتظم الكينوني الذي يستحيل فيه هذا الفرد إلى مجرد جسر لتدفق المال، يسلم بغباء ما يقبضه بعناء.

الخلاصة هي أن صامويل هنتيغتون لما تحدث عن صراع الحضارات بوصفها نماذج حية في سوق التدافع المادي كما الرمزي، مشيرا إلى خصوصية الاسلام، وإن أمكن انتقاده في مدلول لفظة الصراع، فإنه ليكشف بحق وعمق عن المعضلة التي تقف دون انبساط العولمة، كتيار كاسح وماسح لمعنى الوجود الانساني الفطري، ليس في ديار الغير هاته المرة بل في في ديارها، فإذا الخروج من ايسار الموضة وايقاعها الرهيب الذي ينهك قوى الانسان النفسية والمادية، لن يتأتى بغير مراجعة الخصوصية الثقافية، فهذا لن يكون سوى مؤشر تحولات تاريخية كبرى قد تفلت منا رصد مصادر كتابتها كما تفلت مراصد بزوغ وأفول الموضة، لأننا اعتدنا أن نبدأ وننتهي من قراءة التاريخ من نتائج أحداثه التي تؤشر إلى منقلب جديد، أما الأسباب وعناصر الأحداث فهي خاضعة للتأويل طالما أن من صمم الأحدث وصمم الموضة يظلان منصرمان عن الرصد.  









Share To: