في حديث له مع جريدة “التونسية” الصادرة بتونس، صرح الروائي والكاتب المغربي مصطفى لغتيري بأن “الكتابة لا تزدهر ولا تعطي ثمارها إلا في إطار الحرية” وطبعا ليس لعاقل أن يبدي اعتراضا على ذلك، فالنضال من أجل الحرية عبر كامل الصعد والمستويات، ظل مذ انبلج فجر التاريخ نضالا انسانيا لبسط الجمال الذي تكتنزه هذه الروح الانسانية في الانتاج والتلقي معا بفضل البنية المركبة لهذا الانسان لتحقيق معنى الوعي بالوجود وتمثله بالقدر الذي يحقق له انسانيته.

لكن هل يمكن حقا أن تتعثر الكتابة في مكنونها ومقدرتها الجمالية، إذا ما وجدت خارج شَرطية الحرية؟

إن الحاجة للحرية ليسها بأقل من الحاجيات الأخر التي لا يمكن للانسان أن يحقق بها معنى كينونته، بما في ذلك الحاجة البيولوجية اليومية، وهي بفقدانها تثير القلق والتمرد في الذات العارفة قد تفضي إلى البوح بأعظم مما قد يحصل في فضاءات الكتابة والكلام الحر، ذلك لأن موضوع الحرية في سياق النضال من أجلها يقف عند مستويين من التمثل والشعور بوجع الحال، مستوى عذاب الواقع ومستوى حلم الأفاق، قوتان في الاستحضار، التأمل، التألم والتخيل لطالما أفرزت أعظم النصوص التاريخية.

من هنا ينطرح السؤال الملح، ما موقع الكتابة من الحرية والاستبداد في ملحمة الجمال والمعرفة والحقيقة؟

حتما ليس يغدو بالسهل ادعاء القدرة على الايجابة على مثل هكذا سؤال ينطوي على مجموعة من الاشكلات والجدلات المتصلة بالحقيقة الانسانية المفقودة دوما، لكن واضح أن الكتابة بوصفها أرقى مستويات الممارسة الانسانية الراصدة للتاريخ، قد تتجاوز الشَرطيات الكبرى للمسارسة تلك الانسانية، وإلا كان الانسان بما عُرف عن أوسع مناطق تاريخه الملطخ بالدم والقمع قد انتهى في ذاكرته من أن يكون ساعيا إلى الحقيقية بوصفها جوهرته الضالة التي تشده بأهداب وهمها وتبقيه في مسار أفق الوعي الانساني يتألم ويتأمل يوما جديدا من الجمال والتجلي النهائي للمجهول.

في الجزائر مثلا، لا يزال الأدب الذي كُتب أيام الاسبداد الاستعماري سواء بالفرنسبة والعربية، الأرقى فنا والأصدق تعبيرا مما كتب بعد الحرية والاستقلال، لأن من كتبوا ما كتبوا عن الحرية المفقودة والانسانية الضائعة كان بوحي تألم صادق لفقدانها وتأمل وارف لحصولها، فجاءت نصوصهم روائع قُدَّت من جبال الخيال البديع الذي يكسف ظل الحقيقة.

فروايات مثل الدار الكبيرة لمحمد ديب، الأرض والدم لمولود فرعون ومريم وسط النخيل لحمد ولد الشيخ تجاوزت في حجم بديع رسمها لجمال الحرية والانسانية ونقيضيهما الاستبداد والوحشية مقدار التراث الادبي في ماضيه وحاضره بالادب الجزائري.

أكثر من ذلك حتى كتابات جيل الاستبداد الأحادي أي فترة الحزب الواحد والدولة الأمنية، من ثل كتابات طاهر وطار، ومصطفى الغماري وعبد الحميد بن هدوقة، كانت من الرقي والاتقان والصدق بحيث استحال على الجيل الحالي النازع أكثر إلى “غواية اللفظة الجميلة” أن يجاريها فضلا عن أن يتجاوزها.

ولست أريد الصول بما استدبرت من القول، إلى أنه لا جمال ولا قوة في الكتابة إلا في ظل القمع والاستبداد، مطلقا، وإنما تبين لي بأن مقدرة الانسان المعرفية في التعبير وربما هذا من حسن حظه، تنأى عن اشتراطات الواقع ولا تتصل بها بالضرورة عضويا، إذ يمكنه عبر جسر الخيال ان ينتج من البشاعة جمالا يترسخ كنقيض للواقع المر في التاريخ، ولولا ذلك النقيض البشع ما كتبت الروائع الكبرى ولا أزدهر الوعي بحقوق الانسان، ولولا تلك الظلمة والعتمة التاريخية التي انقشع فيها وميض الكتابة، لما كنا نعيش أسئلة الوجود الكبرى ومنها سؤال الحرية الذي لا يزال يستشكل المعقولية الانسانية ويتطور بتطور الجدل الفلسفي.









Share To: