كالسهم المارق انصرم من عمق سوق الخضار بعد أن استطاع بصعوبة ان يفرز سمعه من هاتفه المحمول القديم نبأ أنهم في طريقهم إلى بيته بعدما وصلوا الحي القديم حيث يسكن، ألقى بالكيس البلاستكي الأسود الذي كان بيمناه أمامه، فوقع رطل البصل الذي بالكاد أقنع الخضار بأن يقرضه إياه، داسه بقديميه مثلما داس كل شيء برز في طريقه، وصدم كل من اعترض بقصد أو بغيره سبيله..
لم يكن يهتم لما سيجدونه ببيته المتهرئ القابع في مؤخرة الحي القديم، ، فهو لم يملك يوما ما يمكن أن يُرصد أو يُجرد في خانة الممتلكات المهمة، فعدا المطبخ الصغير بأنبوب غاز وحيد لا يشتغل سوى مرتين في اليوم واحدة لنصف ساعة قبل الغذاء وأخرى مثلها من الوقت قبل العشاء ثم يحكم إغلاقه إلى يوم جديد، وقدر قديم وصحن بثلاثة ملاعق من الاليمنيوم للأكل، وغرفة كبيرة كان قد اقتطع منها جزءا باللوح الرقيق بمساحة سرير لشخصين جعله غرفة نوم له ولزوجته، والباقي صالون لأشباح الضيوف يسكنه ابنه الوحيد، وحمام أتبعته رائحته من احتجاج الجيران، هي ذي قيمة الممتلكات التي حضرها وطواها في جيبه منذ فترة، لن يجد فريق التفتيش لديه ما يدينه بالزيادة.
دفع الباب بقوة حتى كسر قفله القديم، فاقتحمه بسرعة، لم ينبس ببنت شفة، راح يسمح الحائط ويتمسحه بيديه وعينيه بعد أن كان قد اضاع نظارته الطبية السميكة الطبية في الطريق وهو يركض مسرعا عائدا إلى بيته، نزع كل الأطر التي كانت قد علقها على مراحل من عمر سكنه لهذا البيت بأحيط الصالون البارد، أخذ يسأل بعد أن تعثر بصره من دون نظارة عمن داخل أطر الألواح الزيتية، رمى بالأولى أرضا حين أخبرته زوجته أنها لجده الذي رسمه نقلا عن خيال والده، ثم عاد وألقى باللوحة التي رسم عليها وجهه كما أوحت له به المرآة فاحتفظ بتلك التي كانت في الإطار المذهب القديم وكانت لوالده حيث اعتزم أن يغير ملامحه..
أمسك برشته ليرسمه على صورة والده، فجأة وجد نفسه قد نسي ملامح الوغد، صار يعتصر ذاكرته وخياله فلم يستحضرها قط، ساعتها استدعى الأسرة في اجتماع طارئ الأول من نوعه مذ طُرد من العمل بالجريدة حيث كان يعمل كاريكاتوري، ألزم زوجته وابنه بمهمة تذكيره بملامح الوغد الكل عجز فصاحت زوجته:
ـ أكاد أنسى ملامحك أنت وتريدني أن أتذكره هو؟
تذكر أن يفتح التلفاز ليرى صورته في نشرة الأخبار التي تأتي عقب كل فترة غذاء، لكنه تذكر أن تيار الكهرباء مقطوع عن بيته بسبب عدم تسد فاترة الكهرباء للشهر الماضي بعد !
فجأة قفزت فكرة إلى رأس ابنه:
ـ بابا لتتذكر ملامحه عليك أن تتذكر ملاحمه! عندي كتاب في الشعر عنه أنا أتغنى منه وأنت ترسم..
فرح بذكاء ولده وباشر يمحو ملامح والده ويضع بدلا عنها ملامح الوغد، نزع عنه عمامته البيضاء، ثم هبط إلى الشارب الذي أفرطت في ذمه القصيدة فمحا شارب والده الكبير الكثيف ثم فتح شفتيه اللتين كانتا منغلقتين بغضب، ثم أظهرأسنانه وقص منها بعض الشيء، نزع البندقة التي كانت في خلفية صورة والده، لكنه فوجئ باللوحة مضحكة لتتطابق وملامح الوغد لآن القصيد الذي تلاه وغناه ولده كان هجاء وليس مدحا..
ضاقت به الارض بما رحبت، سارع إلى إحضار ورقة رسم كبيرة كانت بحجم الاطار الذهبي التي بها صورة والده المشوهة في الحين، طلب من ابنه أن يرسم بخياله الصغير صورة للوغد، عسى أن يغدو مثالا يُذكر في الإعلام، اختلطت لدى الولد ملامح الوغد بالوالد، فهاله ما رسم الابن وتخوف كثيرا عليه وعلى ونفسه فقام بتقطيع الورقة شطرين ورمى بها إلى المرحاض..
ضاع وقت الاستدراك، وكل الناس علقت الرايات وذبحت القرابين لفريق التفتيش الحكومي للتفتيش يرصد ويجرد الممتلكات الزائدة بعد خطاب التقشف الأخير، إلا هو الذي التصق بحائط الجيران يسترق السمع عما يسأل الفريق تحديدا، وللتو خطرت له فكرة أن يرسل ولده إلى الجيران ليعيروه صورة الوغد إلى حين أن يمر فريق التفتيش، ذعر الجيران من اللفظ "الوغد" الذي نطق به الطفل وهو يشير بأصبعه الى الصورة الكبيرة العالقة بجدران الصالون فاخرجوا الولد بسرعة وصفقوا الباب في وجهه الصغير بقوة!
أحكم جبينه براحة يده اليسرى وهو جالس على عتبة البيت من الداخل بعد أن روى له الطفل ما حدث له مع الجيران، ثم أمعن النظر كثيرا في أنبوب الغاز، وقبل أن يطلب من زوجته وولده المغادرة البيت لينفذ الخطة التي ستنقذه من تهمة التآمر على الوغد، رجاهما أن يمعنا النظر فيه، وأن يحتفظا بشيء من ملامحه في زاوية من زوايا ذاكرتيهما..
وفي اليوم التالي من رقوده بالمستشفى شاهد المأساة في الأخبار التي تبث في أثناء كل فترة غذاء وعشاء حادث الانفجار الارهابي الذي استهدف بيت فنان بإحدى زوايا الحي القديم اعتزل فن الرسم بعدما خانه البصر وحال دون مواصلته ملحمته الفنية .
لكن ما زاد من حروقه أكثر من تحت الضمادات بل تحت جلده و في قعر نفسه هو سماعه مقدمة النشرة تذكر كيف أن المعجزة تجلت في بيت هذا الفنان الذي رغم احتراقه بكل ما فيه من أثاث فاخر إلا أن صورة الأمير المُفدى سلمت من كل تلك النيران فسبحان الله !
Post A Comment: