ليس يكتفي التمدد الغربي بفكره وطغواه وخاصة دعواه بالتمرجع الحضاري الخالص المستمد من ثقافته اليونانية، في الحاضر بل يعدوه إلى آقاصي الماضي، مقصيا سلسلة الانسانية الكبرى في الاستواء على الوعي التاريخ وانجازاته للشهود الحضاري، ولعل ذلك هو ما اسس بطُعم اللغة لما يسمى اليوم الاستلاب الحضاري، الذي هو في حقيقته ليس يكتفي بإذابة الآخر في ثقافة الغرب الحاضرة، بل إذابة ومحو أثر ماضي هذا الآخر في حاضر هذا الغرب.
ممكن للبعض القول أن مثل هذا الكلام قد صار من المستهلكات المنتهية في طاحونة الجدل الثقافي ومناظراته، وأن العولمة من بعد “ما بعد الحداثة” ومن بعد “الحداثة” ذاتها، كانت أو يفترض أنها وضعت حدا لهكذا نقاشات تروم تفكيك وفك صلة التطور الفكري والثقافي للانسانية بالارتجاع الشوفيني للماضي ومحاولة خلق مساحة وقوف اعتراضية للعقل الانساني الحضاري، مثلما يحدث مع الثقافات النزقة والمعارضة للعولمة اليوم (خاصة الاسلام) بوصفها نتاج الغربي.
كلمة غربي هنا تظلها في حاجة للاماطة كقشرة أو غلاف لمحتوى لا يكاد “الآخر” يفهمه بما اعتاد أن يفهمه في سوق الأفكار التاريخية والعالمية، وهذا التخفي وراء العنوان الجغرافي هو ما يشكل حالة القلق الرهيب لسؤال الانتساب الحضاري الذي تتعالى وتتنازل فيه درجات المساهمة والمساومة في ذات الآن في الخطاب الفكري والثقافي الغربي المتدثر والمستسر بالعاليمة ثم العولمية.
وقد أوضح ذلك مؤخرا الكاتب والرياضي الفرنسي السابق ليليان تورام في كتابه الذي حاز اهتماما واسعا خارج النطاق الرياضي، كان قد عنونه بـ”الفكر الابيض” La pensée blanche انتقد فيه المرجعية البيضاء التي ليسفقط يُرمز بها للحضارة بل تتخذ معيارا بها وتخفي وتقصي بذلك من خلالها كل إحالة للانسانية خارج النصوص والمعنى والمرجعية البيضاء، فتستولي بالتالي على الحقيقة بوصف سؤالها إرث إنساني في الاشكال الوجودي الأقوى والأطغى في التاريخ.
فالبشرة البيضاء (الشقراء) اليوم هي مرجع الجمال والديمقراطية البيضاء هي مقياس الحرية وحقوق الانسان والرأسمالية البيضاء هي منتهى أو نهاية التاريخ، بل حتى المسيحية البيضاء تظل هي الديانة الصحيحة وليست المسيحية السوداء أو الحمراء في إفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية، وهنا يستوقفني ما ذكرته ذات مرة الصحفية البريطانية إيفون ريدلي وهي تروي لإحدى القنوات التلفزية ظروف وأسباب تحولها من المسيحية إلى الاسلام، عندما جادلت أمها ذات مرة وهي تدعوها لاقتفاء أثرها فرفضت الأم قائلة “أنا ولدت وعشت وسأموت مسيحية ولا علاقة لي بديانة هؤلاء العرب بالشرق الأوسط” وهنا ضحكت أيفون على والداتها قائلة لها المسيح هو من الشرق الأوسط أوتعتقدين أنه من مانشيستر!
موقف له أكثر من دلالة على حالة وحجم القولبة الفكرية في التاريخ التي أنتجها وانتهجها العقل “الأبيض” كي يستحوذ أو يتجسد وحده ليس في السمة الحضارية باعتبارها دورة مشتركة بين الانسانية بل في “الحقيقة” الانسانية ذاتها!
من هنا يشير ليليان تورام في كتابه المذكور إلى أنه بسبب اختلاف لون بشرته (السمراء) على بقية زملائه في المدرسة، كان دوما يسأل والدته عن لون الإله، وطبعا حتى في ظل عدم قدرة الأم على إجابته لعدم امتلاكها الاجابة كان يعتقد بانه أبيض لأن البياض هو المعيار ولا شيء بوسعه مجاراته، أي سيطرة التاريخي على الميتافزيقي.
البياض هو لون الحضارة اليوم، لون الآلة لون الجمال لون الوقت، واللون هو معطى دلالي يتصل بالحاسة أكثر مما يتصل بالحقيقة، والقرآن يشير إلى ذلك فاصلا في مسألة اللون بحسانه تنوع واختلاف في الخصوصية الشيئية وليس تفاضل وتعال مثلما نصت عليه الآية الكريمة (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) فذكر اللسان (الفكر) قبل ذكر اللون (العرق) المنتج لهذا الفكر، وبذلك يغدو سؤال تورام عن لون الإله بلا معنى كون هذا الإله هو خارج البنية الشيئية (ليس كمثله شيء) المدركة بالحواس (اللون) وأنه وبذلك يظل “التلوين الحضاري” ليس أكثر من سحر وتساحر العقل الانساني لا غير، وعليه يستحيل ما ينعت بالتلاقح العرقي لـ(تحسين النسل) وما يقلبله من تـ(حصين النسل) أي العنصرية، مجرد إفراز لحالة الاستلاب الفكري والحضاري التي وقع فيها غير الغربيين في شراك الفكر الغربي (الفكر الأبيض)..!
Post A Comment: