حنّت يديّ، ووجهي الشريدُ، يلفه خمار قديم هو آخر عهدي بالبيت، صبيّة في العاشرة، بصناديق مناديل تارة ويدٍ ممدودة فارغةً تعود ببضعة أوراق تارة، وقدمين عاريتين دائما، شاحبة مثل لون الأرض، سمراء بالية، وصلبة متغضنة كغصن فر من سدرة عتيقة، طفلة.. لكنني أحفظ الشوارع وأكشف اللصوص والوضيعين، أغمر وجهي بماء البٍرك، واعتاد ظهريَ المحنيّ في لينه على قطعٍ كرتونية تحاكي الفراش في يأس، أشباهي كُثر، نركض معًا ونقضي النهار الطويل والقاسي، ترسلهم أمهاتهم إلى الشوارع والمقاهي بقلب خافق، مثلما ترسل الأم طفلها إلى مدرسته، وإذ يرجع إلى البيت بعد يوم طويل، نبقى نحن خارجًا، ونكتشف كل يومٍ وكرًا جديدا لقضاء الليل، لذا.. لم تحرك فيّ أسمال أمهاتهم حنينًا، ولم يبعث اقتسامهم الظلّ والحر والجوع واللُقَم غيرةً فيّ، كنت حرةً من أسئلة ستأكل عقلي، ومن ظل واهٍ كان سيخلقه وجودهم، منحهم الموت شرف الرحيل وخلّصهم من أن يكونوا سببا شاهدا على عذابي.
مررت أمي ذات ليلة أصبعها الجاف جراء المرض على راحة يدي، وغنت أغنية قديمة، وقالت لي.. غدًا تكبرين وتعيشين أفضل، وتنجبين صبيان وبنات، أُسرّ كل مرة أكثر لأن عينيها غابتا قبل أن تدرك أي نبوءة هي التي تحققت، التي ألقى بها والدي وهو يصفعها حتى تهاوت، ستموتين وتتشرد ابنتك، لا علم لي بالتواريخ أو الأعوام، وبالكاد أعبر بين الكلمات الواضحة، لكنني أعلم أن وجها قذرا عبث بجسدي فغيّر حياتي مذ ذلك اليوم، وطبع فيّ شعورًا بالاشمئزاز يطعن قلبي، في الليل.. حيث يرتاح الناس، تبدأ الذئاب بالعواء.. وبدت لي الأرض في يباسها قطعة من النار، كان الجسر قريبا، وكذلك البحر، فقررت.. بارتياحٍ تام، أن أبلل نفسي بوجه الماء.. حتى أروي عطشي.
Post A Comment: