قام الأدب العربي في حديث نهضته على أساس من القطائع العمودية والافقية شبه الكاملة مع الموروث وهذا استجابة لقوانين نهضة هذا الحقل وباقي حقول المعرفة والفنون الإنسانية في المركز الحضاري أي الغرب، وهذا ما جعله باق محل تجاذبات على كل المستويات، اللغة، الفكر والصنوف التعبيرية ذاتها، وتجلى بذلك الأدب العربي كفضاء لإنتاج فن المعنى ومعنى الفن مشمولا بأزمة الهوية التي استقرت في الخيال العربي وعاطفته مثلما استقرت في فكره وعقله مغربة إياه في مناحي التاريخ.
لكن ما يثير اهتمام الراسخين أكثر في رصد الشاكلة التعبيرية الأدبية في عالمنا العربي، وجميع مساح قضاياها المتناولة في الشعر كما في السرد ولا سيما في هذا الأخير، هو صرار هذا الأدب على التعبير عن نفسه داخل النسق الحداثي لا بوصفه شرطا زمنيا وإنما تاريخيا، أي داخل نموذج معرفي ذي موقف انطولوجي خاص.
فليس لروائي مثلا أن يحمل من هذا الميسم والوصف إذا ما كانت موضوعاته وأشياء موضوعاته تلك تقع خارج المفردات الموضوعية والشيئية للنسق الحداثي، وبذلك أضحت مثلا الرواية ليست فقط ابنة المدينة كما يؤثر تعريفها مجازا، بل صارت هي والمدينة ابنة متبناة لمرحلة من التاريخ تلغي ما قد سلف من أشياء التعبير الخصوصية، بأن تضاعها داخل ظفري الموقف الفكري والحكم التاريخي للحداثة ممن سبقها من نماذج حضارية.
فالتحديث في الأدب عندنا يقع في ممارسته وشروط الاتصاف به ذات موقع التحديث في المادة المعرفية والمعرفة المادية الأخرى التي تحققت بها النهضة الغربية وغفلت عنها النهضة العربية.
فمثلا من قضايا المجتمع العربي ذات الخصوصية الجدلية في التاريخ والاجتماع ذلك الحضور الغيبي (الميتافزيقي) ليس بوصفه تراثا إنسانيا متجاوز بمقتضيات الحداثة وأدواتها، وإنما بكونه الحاضر الحي في وجدان الانسان العربي وقومته وتمشيه التاريخي، فجل من يكتب عن هكذا قضايا، لا يكتبه إلا بخلفية نقد المعطى الغيبي ومحاولة تطهير الوعي الثقافي للإنسان العربي منه باعتباره يشكل مرحلة من مراحل المشترك الإنساني أو البشري القديم.
من هنا يتضح مسعى الكثيرين إلى توحيد منظور قيمي للتاريخ الإنساني بحسبانه سياق من الاعتوار المشترك الذي شمل بمسه وجنوه كل الإنسانية، غاية ما في الأمر أن بعضها تعقَّل (تحدثن) التاريخ وحقق التجاوز المطلوب في حين ظل البعض الآخر ومنه علمنا العربي، رهين الجدل والخرافة والمستوحى من الغيب، يبرر به هزائمه التاريخية، وعدم قدرته على التحرر العقلاني من ماضيه.
ويكاد الروائي العربي يخجل من أن يمتعن (من المعين) من معطى الغيب والقصص التراثي كي يحاكي محكيات العصر عبر جسر الخصوصية البهي، فالجن مثلا الكائن الفعلي في منطوق المقدس، الأسطوري في الوعي الحداثي، يتيح حضوره إمكانيات عجيبة في التوسع الفني شكلا ومضمونا في الهرم التعبير السردي، يحرص الروائي العربي على تلافيه خشية أن يظهر بمظهر من يحادد ويشاقق مشروطات الحداثة في المبنى والمعنى، وإذا ما تناوله (الجن) فسوف لن يكون ذلك إلا موقفا، أي نقدا للثقافة والاجتماع العربي واعتبارها ناشز عن الحضارة والتاريخ.
في روايتها "الصوت السري" أجادت الروائية الايرانية برينوش صانعي توظيف الصوت الغيبي من خلال قريني الطفل "الأخرس" غير المرئيين (ملاكين) اللذين كانا يوحيان اليه ما يجب، إزاء كل وضع خاص أو مصاعب تعترضه أن يتخذه من موقف، احدمها يوحي له بالشر وآخر بالخير، ما أعطى لذلك العمل الروائي الباهر، بالإضافة إلى إمكانية الكشف على العالم الداخلي للطفل الأخرس، رونقا وإمكانية التمدد خارج المكان المحكي لكن داخل الزمان في أروع أداة استخدام الموروث الثقافي بصفته موقفا من التاريخ وليس محل نقد أو نفي من هذا التاريخ.
فالحاصل إذن، هو أن الأديب العربي الذي انفك كلية عن تراثه التعبيري قد خسر الكثير حين قطع مع مكنون ثقافته ومخزونها من الأشياء والرموز والحقائق الواقعة خلف العقلانية الصارمة، وأضاع بالتالي الكثير من فرص التوسع في الرقع التعبير التي ضاق بها الخيال الغربي بماديته الفكرية فاضطر إلى فض الشرنقة المادية تلك محاولة من لإيجاد أراض تعبيرية أخرى كان منها ما سمي بالواقعية السحرية.
Post A Comment: