"إن هذهِ السَمَكة بعظمَتها و براعة تصرّفها لا تجدُ من هو أهل لأكلها؛ أنني لا أحسنُ فهمَ هذه الأمور، ولكن من حسن الطالع أن لا ينبغي لنا أن نحاولَ قتل الشمس والقمر والنجوم، حسبُنا أن نعيشَ على الماءِ و نقتل أخوَتنا الصادقين في الودّ."
 وما العمرُ ما طالتْ به الدهورُ … إنما العمرُ ما تمَّ به السرورُ.

لم يكن الأدب بدوره  في سائر تجلياته بعيداً عن كوابيس البشر المتصلة بتقدمهم في السن. فالموت لم يكن وحده هو الهاجس الذي أرّق حياة البشر منذ وجودهم على سطح هذا الكوكب، بل كانت رغبتهم في الخلود مقرونة بحلم الاحتفاظ بالشباب الدائم والنضارة التي لا تخبو. ذلك أن حياة أبدية ينخرها الوهن والمرض والعجز الجسدي، لن تكون سوى حصّالة للتعاسة والشقاء.ولما لا؟! فالترابط إياه لم يكن  بعيداً عن التصور الديني للآخرة، حيث المؤمنون وذوو الأعمال الصالحة لا تتم مكافأتهم بالحياة الأبدية وحدها، بل ببقائهم على قيد الشباب الدائم الذي لا ينال منه مرور الزمن وتقادم السنين. انعكاس الزمن في قصائد الشعراء لن يكون واحداً بأي حال، بل سيتخذ أبعاداً ودلالات مختلفة يتصل بعضها بما هو نفسي وذهني، ويتصل بعضها الآخر بتقهقر الجسد وتقلص الحواس، كما بانكماش الجلد وتغضن الملامح واشتعال الشيب في الرأس.

وأرى أن سر العبقرية هو أن تحتفظ بروح الطفولة إلى سن الشيخوخة، ما يعني ألا تفقد حماسك أبدا. فالانسان يُهزم  حين يتوقف عن التطور والتقدم. وهذا ما تجده فى الرواية الكلاسيكية الأدبية “العجوز والبحر” لـ “أرنست همنجواي”. هي قصة تختصر حكاية الإنسان في الأرض، صراعة من أجل البقاء، حكمته التي يكتسبها خلال سنين العمر، فتتجسد في تصرفه تجاه موقف، أو صبره أمام أمرٍ عسير، وقد تتجسد تلك الحكمة في حوار يجريه مع عصفور تائه في عباب البحر، أو مع سمكة يجاريها ليظفر بخيرها.

هي قصة يراها كل شخص من زاويته، ويستخلص منها كل إنسان حكمة بحسب سنه، فقد يراها الشاب المقبل على الحياة، ملحمة للبطولة والإصرار وصفحة من صفحات الكفاح والنضال، بينما قد يراها الشيخ الذي ابيض شعر ذقنه، قصة من قصص الصبر والتأني، والتمهل بدل الاستعجال، قد يجدها محب الطبيعة رحلة للتأمل والتفكير وسط محيط أزرق وتحت سماء زرقاء، وقد يجدها الزاهد في الحياة، صورة من صور الأخذ بعد العطاء، وأن هذه الدنيا لا تساوي شيء، فما هي إلا ابتلاء.

هى رواية  عن الإنسان مقابل الطبيعة والنضال المصمم ضد الشيخوخة المحتومة والوفاة. حازت الرواية على جائزة نوبل1954
تجسد الرواية قصة الصراع الابدي( الانسان والحياة )..بين الانسان والانسان من جهة ،والانسان وقساوة قوى الطبيعة من جهة اخرى.. وترمز الى قوة الارادة ورباطة الجاش والثار للذات بكل مفاهيمها اذا مااستجمعها الانسان ليصل الى مايريد فيتمكن من عمل المستحيل في سبيل تحقيق ذلك..
(سانتيجو)الصياد العجوز او شيخ البحر الذي اصطاد سمكة المارلين العظيمة و صرع القرش ليثبت ذاته وانه مازال قادرا على العطاء رغم تقدمه بالسن وثارا من الصيادين الذين نعتوه بالعجز والنحس..

أن الصياد العجوز " سانتياجو " لم يظفر بأي سمكة طوال أربعة وثمانين يوما ، وقد راوده الأمل في ذلك اليوم بأن الحظَّ سيعود ويطرق بابه ثانية ، فراح يضرب بمجدافيه في الماء بنشاط ، خارجا بمركبه من ميناء " هافانا " قبل أن تبزغ الشمس من خدرها ، فأوغل في البحر عاقدا العزم على الاصطياد في مكان بعيد لم يصل إليه من قبل ، وفيما وراء المنطقة التي اعتاد غيره من الصيادين كسب رزقهم فيها ، إنه ينشد اصطياد سمكة ضخمة ، وإذا تحقق ذلك فلن يُدِرَّ عليه ربحا وفيرا فحسب ، بل سيُعيد إليه أيضا كبرياءه كرجل . تعلَّقت بخطافه سمكة ضخمة من نوع ( المرلين ) التي تمضي قدما في البحر صوب الشمال والشرق وهي تسحب المركب وراءها ، ولا تصعد السمكة إلى سطح الماء ، ويستطيع " سانيتاجو "من حركة المركب السريعة معرفة نوع السمكة التي ظفر بها . ثم يمضي يومان تصعد السمكة بعدهما إلى سطح الماء ، وتقفز خارجه في محاول للتخلص من الخطاف وإلقائه بعيدا عن فمها . ويدرك السمكة التعب في اليوم الثالث فتشرع في إدارة المركب حركة دائرية ، ويتمكن " سانتياجو " من جذب السمكة إلى أن تصبح قرية جدا من المركب ، وأخيرا حين تصبح في محاذاة المركب يطعنها العجوز برمحه ويقتلها . ولما كانت السمكة أطول من المركب كان لابد من ربطها إلى الحافة العليا من جانب المركب تَوْطِئَةً لرحلة العودة إلى " هافانا " ، ثم تجيء أسماك القرش جماعات وفرادى ، وبرغم المحاولات المضنية التي يبذلها العجوز ، تتمكن من تمزيق لحم السمكة . وحين يصل المركب إلى الشاطئ ويستقرّ به لا يبقى من السمكة سوى هيكلها العظمي . يخلع العجوز الصَّاري (عمود الشراع ) من مكانه ، ويطوي حوله الشراع ويربطه ثم يحمله على كتفه ، ويمضي إلى كوخه وهو يتمايل ويترنَّح ، وهناك يتمدد فوق فراشه وينام . 
وتعكس الرواية نظرة كاتبها للحياة ، فهي تُسلِّم تماما وتعترف بوجود الأذى والمصائب والكوارث وتقلب الظروف التي يصعب تعليلها أو التنبؤ بها ( وهي هنا أسماك القرش التي أكلت السمكة ) وبرغم ذلك فإن الكاتب يقدِّر الطاقة الكامنة في الجنس البشري ،والمشاركة الجوهرية بين الإنسان والطبيعة . فسانتياجو برغم أنه يريد قتل السمكة فإنه يشعر نحوها بالإعجاب .. إنه رباط من الحب والاحترام بين خصمين جديرين بالاهتمام .. والصراع بين العجوز والسمكة كان مباراة عادلة تثير إعجاب المشاهدين ودهشتهم وإشفاقهم ، وعندما تهاجم القروش السمكة يتدخل هنا عامل آثم شرير ، مما يوجب اعتذار العجوز قائلا :

"إنني آسف لك أيتها السمكة ، لقد ساء كل شيء ."
وربما كان القرش – من بعض الأوجه – مثل الصَّياد ، فالشر لا يمكن وحده أن يُعَلِّل إحباط وخيبة الإنسان 
أما الغلام " مانولين " فهو صبي منعه والده من الإبحار مع الصياد العجوز خشية أن ينتقل سوء حظ الرجل العجوز إليه ، وفي نهاية الرواية يعزم الصبي على الانضمام ثانية إلى معلمه الناصح المخلص ، وحين كان العجوز يستعد للراحة بعد عودته من رحلته المضنية الشاقة ، يقول له الغلام : 

"يجب أن تسترد عافيتك سريعا فهناك الكثير الذي أستطيع أن أتعلّمه ، ويمكنك أن تعلمني كل شيء . "
هذا الغلام الذي أحضر الطعام والدواء إلى سانتياجو لم يفقد قط إيمانه بمكانة الصياد العجوز ومنزلته الرفيعة كصياد وبطل .ويمكننا أن نمضي إلى أبعد من ذلك في فهم رمزية الصبي في الرواية : إن الرباط الذي يربط مانولين بسانتياجو هو حلقة ربط بين الأجيال ، وهو الأمل في استمرار الحياة ، وحاجة الكبير إلى الصغير ، والصغير إلى الكبير

يقول العجوز عن خبراته وقوة عقله: "ينبغي لي أن أفكر؛ إن التفكير هو كل ما يمكن أن يحتفظ لي بالقوة، فلا مكان هنا لليأس، إنها لحماقة أن يستولي اليأس على الإنسان، كما أنى لا أعتقد بان اليأس حقيقة “أيتها السمكة؛ سأظل معك حتى أموت.

وترى فى حديثه  للطائر حكمة ورحمة فيقول:
"خذ نصيبك من الرّاحة أيّها الطائر الصغير؛ ثمّ اذهب إلى موعدك مع القدَر، كأيّ إنسان، أو أيّ طائر، أو أيّة سمَكة.
ثم راقَ للعجوز أن يثرثر، لأنّ ظهره كانَ قد تصلّب و اشتد به الألم أثناء الليل؛
فعادَ يقولُ للطائر:
اغرب عن مأواي إذا شئت؛ ويؤسفني أنني لا أستطيع نشر الشراع لآخذك فيه مع هذه النسمة الخفيفة التي بدأت تهفو، على أني أشعر الآن أن معي صديقاً."
وعاد العجوز لحوار نفسه:
هذه السمكة صاحبتي هي الأخرى؛ إنني لم أرَ أو أسمع بمثلها في حياتي، ولكن لا بدّ لي من قتلها، من حُسْن الحظ إننا لا نحاولُ قتلَ النجوم.

 وجعلَ يُفكّرُ محدّثاً نفسه:
تصوّر؛ لو حاولَ الناسُ كلَّ يوم أن يقتلوا القمر! أنّ القمرَ يستطيعُ أن يهربَ و يلوذُ بالنجاة ولكن تصوّر، لو بذلَ إنسانٌ جهدَ يومه ليقتلَ الشمس؛ من حُسن الطالع أنّنا ولدنا هكذا.
ثمّ عاودهُ الرثاءُ للسمكةِ التي لم تُطعم شيئاً؛ على أنّ رثائه لم يُخفّف من حدّة شوقه إلى قتلها فهمْهمَ قائلاً:
كم من أفواه النّاس سيأكلُ من لحم هذه السمكة؟ ولكن أهذهِ الأفواه أهل لأكلها؟ لا طبعاً لا .

وختاماً رفقاً بهم، فإنّهم بزمنٍ غير زمانهم: آرنست همنغواي. روائي وكاتب أميركي (1899-1961). يعد من أهم الروائيين وكتاب القصة الأميركيين. غلبت عليه النظرة السوداوية للعالم في البداية، إلا أنه عاد ليجدد أفكاره فعمل على تمجيد القوة النفسية لعقل الإنسان في رواياته. شارك في الحربين العالميتين: الأولى والثانية. وفي آواخر حياته، انتقل للعيش في منزل في كوبا.

حيث بدأ يعانى من اضطرابات عقلية. وفي الساعات الأولى من صباح الثاني من يوليو 1961، أطلق النار على نفسه من البندقية المفضلة لديه. من أعماله: سيول الربيع (رواية)، رجال بلا نساء (قصص قصيرة)، وداعاً للسلاح (رواية)








Share To: