تنهار المشاريع السياسية والفكرية في أجندات التيارات الاسلامية كبدائل للنموذج الكوني المهيمن، حالما تعجز عن تجاوز المعضلة الأخلاقية بوصفها معطى متغير في سوح المعرفة وتطبيقات الاجتماع، إذ غالبا من يكتشف حملة المشروع الدعوي بالسياسة والسياسي بالدعوة، بسبب نزعهم التبرير الاخلاقي ومحورته كأساس للأزمة الكونية، أن ذلك أخف بكثير من أن يجعلهم ينطرحون كبديل للنموذج السائد، أو كعنصر صراع في عالم الأفكار مؤسس على خلفية حضارية تدافعية غير صدامية كما ذهب إليه المفكر الأمريكي الراحل صومائيل هينتينغتون.

 فما الذي يعيق العقل الاسلاموي حتى لا نقول الاسلامي  على إنتاج نموذج تفسيري لأزمة الراهن الفكري العولمي خارج دائرة الحكم الأخلاقي الذاتي؟

تجدر أهمية وحيوية الموضوع، الاشارة إلى أن مسألة الأخلاق قد شغلت اهتمام جل الفلاسفة عبر العصور لشدة وثاقها بالخاصية الانسانية كذات عارفة وواعية بالتاريخ، إذ ظل الجدل حول طبيعتها وأساس انبثاقها قائما إلى أن تجاوزته مشاريع التحديث وليس الحداثة في ظل انفصام وانفصال معا للفكر عن الواقع واستحكام البراغماتية المادية بمصير الانسان.

هذا الانزياح اللا منطقي عن عنصر الاخلاق كمكون رئيس في الكينونة والمعرفة الانسانيتين، من جانب كبار الفاعلين في التاريخ المادي المهيمن على البشرية اليوم، جعل أصحاب المشاريع الانسانية، أو ذوي نزعة أنسنة التاريخ، يقعون في معضلة مزدوجة من حيث مشروعيتهم ومشارعيتهم التاريخية، أي من حيث شرعية اللحظة الحضارية التي تعيشها الانسانية طوعا أو كرها، أو ما يحتفظون به من أساس مشاريعهم التي يزعمون أنها بدائل للواقع المادي المأزوم، كما هو شأن أولى الفكرة الاسلامية والاسلاميين منهم بشكل خاص لفرط انطراحهم في معتركات السياسة بمشارعيتها وبرامجيتها، فمن ذا الذي بوسعه اليوم سماع صوت الاخلاق في ظل الآنين الانساني المتصاعد بفعل مطارق المادة وانقلاب الكون إلى سوق استُسلع فيها كل شيء بما في ذلك الفكر ذاته؟

وهكذا وجد مفكرو الاسلام ومن يدور حولهم من حركيين سياسيين بإزاء معضلة الهامش في طرح البديل، وضرورة معاودة النظر والتمعن في الأساس المركزي للأزمة الانسانية الذي من خلاله يمكن تبرير الحضور والانطراح كبديل وكحل موضوعي لها.

غير أن عدم قدرة العقل الاسلامي اليوم على انتاج نموذج معرفي خالص، يستوعب أشياء ومعطيات التاريخ، في ظل مشاكل ذاتية هو واقع في أتونها منذ قرون، بسبب خلاف حاضره مع ماضية وعدم استطاعتهما على تحقيق توافق يتم بموجبه تصفية وتسوية التراث الفقهي والفكري الثقيل، جعل هذا الفكر متحيزا ومتحجرا في الوعاء الأخلاقي لا يعدوه إلى جوانب أخرى من المعضلة الانسانية لعالم اليوم.

ولعل هذا الانحباس المعرفي في الفكر الاخلاقي هو ما جعا الراحل المفكر المصري القدير عبد الوهاب المسيري، يلح في أكثر من مناسبة على ضرورة أن يسعى مفكرو الاسلام ومن خلالهم الاسلاميين، بدلا من إصدار الحكم الاخلاقي حيال أي ظاهرة أو مظهر من مظاهر الأزمة الانسانية، إلى الاشتغال أكثر على آليتي الادراك والتفسير حتى يكون لمشروعهم وفكرهم معنى في وموضوعية في السياق الحضاري والواقع المعيش.

فالمشروع الاسلامي يرتكس بل وينتكس مباشرة حين يغيب عن ساحة نقد الاخلاق، ليحضر بقوة واندفاع كلامي رهيب في نقضها، وفق التصنيفات النموذجية، المنطلقة من ذاتية ثقافية غير ذات وعي ولا اتصال بأسس المنجز والحاصل التاريخي.

وكل مشاريع الاصلاح التي رفعها الاسلاميون فكرا وسياسة، ارتكزت على نقض الاخلاق الكونية، دون نقدها بآليات التفكيك العقلاني، وهو ما أسهم في ابعادهم عن منطق الصراع وتحديد موقعهم بعيدا عن مركز التاريخ، أين يعيشون على هامش الاسئلة الكبرى للازمة الانسانية.

وهكذا تجلت واتضحت معالم الاخفاق في الاندراج الطبيعي في معترك صراع النماذج البدلية والافكار المنقذة من وضع انساني يمضي بإيقاع مادي جهنمي إلى المجهول، عبر سقوط الاسلام السياسي في عديد التجارب الحكم الوطنية التي خاضها، أين لم يفلح  في طرح رؤاه وبدائله "الأخلاقية" فحسب، لكونها باتت غير تاريخية، بل فقد كل اخلاقيات العمل السياسي والمجتمعي، وبالتالي تجرد من الصفة البدائلية التي ظل يعليها كميزة له دون سواه من التيارات الفكرية والسياسية الأخرى !

فتضخم الخطاب الاسلامي بالبعد الاخلاقي صار أوضح من علم، بحيث طغى على كل محاولة لتأسيس عقل معرفي تفسيري غير تبريري، مشكلا بذلك معضلة المشروع في أولى عتبات اقتحامه لسوق أفكار كونية اليوم، لا تعترف سوى ببضائع المستحدث من التاريخ ومخاضات تجاربه الكبرى، بعيدا عن أساطير وسرديات العتاقة الانسانية، هاته الأخيرة المصممة على أن لا تحيا تاريخها بغير منطق القطائع المستمرة.







Share To: