في ندوة رائدة ورائعة عبر تقنية التواصل عن بعد، خصصت لدراسة واقع الثقافة العلمية، حاول محاضرها الإعلامي والباحث الجامعي نذير طيار تقديم صورة حية حول هذه الإشكالية ذات الارتباط الوثيق بعديد القضايا المجتمعية التاريخي منها والواقعي المعرفي والخرافي، وهذا من خلال منظار تفرعت زوايا الرؤية فيه لتشمل نقاط ذات صلة دقيقة بمفاتح المعرفة العلمية في جوانبها الإنسانية وعلى رأسها اللغة بمختلف اشكالاتها وتفرعات حقول الدراسة فيها، ما كشف عن عمق مشكلة الرؤية الواقعة للعلم ليس على صعيدنا العربي الخاص فحسب بل البشري جميعا، وليس فقط على مستوى العموم بل داخل مجتمع علوم ذاته.
شخصيا ما استرعى انتباهي فيما طرحه الدكتور نذير طيار هو ثنائية الاسترابة المتضادة بين في العلم كمعطى عقلي وأنصار الميتافيزيقا كمعطى غيبي، استحال على الوعي الإنساني الجمع بينهما في تجربة نسقية جديدة تؤسس مرحلة أخرى من مراحل اكتشاف معنى الوجود خلافا لما طُرح سابقا.
العلم سواء بمجزوء أو مشمول قضاياه وحقول اشتغاله لم يكن في حد ذاته محل شك والتشكيك لدى الانسانية إلا من بعدما طُرح بغلواء كأساس معرفي وحيد ومصدر أوحد لإنتاج الحقائق، من هنا صارت "العقلاناتية" تتغول في فضاءات الأسئلة الكبرى التي تفوق قدرة الحسم التجريبي والرياضي مع الظواهر الوجودية، لتطفو على السطح مقولة وحدة العلوم التي تقوم على قوانين صلبة ومعلبة تزج وتمزج الشهادة بالغيب وبالأنكار أو الاقرار وفق الاملاء العقلي أو العقلانيـ ل وتلحق الانسان بالمدروس المادي المشكل للوجود واعتباره جزء لا يتجزأ من هذه الكينونة المادية الصماء العمياء.
هذا التغول "العلموي" كأداة حسم لصراع الانسان مع لغز التاريخ وعيا وتحكما، أفضى بدلا من تقليص رقعة المجهول وتوسيع رقعة المعلوم إلى أن يصل الانسان إلى طي أخر بقعة ظلام في وعييه الوجودي ويعلن إلها، مثلما هو مطروح كمسار ومنهج تمشي للعلماويين – انتهى – إلى فشل عقلي في تصور سيناريو هذا الصراع (الانسان - لغز التاريخ).
ويخطئ من يعتقد بأن التشكيك في الإنجازات العلمية الكبرى التي حققها الانسان عبر التاريخ، هو موقف أمم لا حظ وفير لها في العلم والعلوم، وبالتالي لا قدرة لها على استيعاب هكذا إنجازات تفوق خيالها الواقعي، كما هو الحال معنها في عالمينا العربي والإسلامي، بل ثمة في عقر دار الغرب من يشكك في حقيقة تلك المنجزات والقفزات العلمية الكبرى كمثل ما هو الشأن مع الصعود إلى القمر، الذي يظل محل، ليس فقط شك وتشكيك بل تهكم سخرية من عديد الجهات الغربية العلمية منها والعامية.
هنا تنبغي الإشارة إلى أن ثمة جرح عميق في الوعي الإنساني من خلال التجربة الإنسانية في الحضارة بوصفها إمبراطورية العقل الخالدة كما وصفها توينبي، يتعلق بمرجعية فهم الوجود والتعاطي مع ظواهره، والذي حفل بتصارعية دائمة بين الغيبي والشهاداتي، بين الميكروسكوب والهروسكوب، بين ما يوحى وما يوعى، في الفصل الأخير من مسرح التصارع والتنازع هذا قضى العلم بنزعته الانفرادية على شركاء التاريخ من دوائر المعرفة الأخر وأعلن نفسه ملكا أبديا لهذا التاريخ.
طبعا لم يستطع العلم، مثلما أشرنا بموجب خصائصه التكوينية والمصدرية، أن يجيب على كل الأسئلة الوجودية، وبالتالي مثلما خلَّد له أنصارا شرسين، خلد بمقابل ذلك معارضين مشككين أكثر شراسة، من هنا يتبين لنا أن أزمة العلم كنزعة إنسانية متصلة بخصائص الوجود الإنساني بوصف هذا الانسان المخلوق الوحيد الواعي بالوجود والتاريخ تتمحور في كن العلماويين زعموا بأن الحقيقة كامنة في العلم وأن هذا الأخير بمستطاعه أن يجلي الحقيقة، مع نفييه تام لإمكانية أن يكون للميتافزيقا شيء من القدرة على ذلك.
في حين الميتافيزيقيون، يسخرون من أدوات ونظريات وأرقام العلم لبلوغ الحقيقة، بل يعتقدون بأن العقل الذي هو أساس كل خارطة إدراكية عليمة، ليس بقادر على أن يجلي حقيقة ذاته فضلا عن أن يجلي حقيقة الوجود ويفك شفرة لغزه.
فالمسألة إذا تظل واضحة هي الصراع حول "الحقيقة" بادعاء كل القدرة على امتلاكها، بين تشكيك ميتافيزيقي للعلم، ونفي علمي للميتافزيقا، كمصادر معرفة مفضية إلى بلوغ الحقيقة الكبرى، وكل النماذج الثقافية التي أسست لحلقات من السلسلة الحضارية الإنسانية مرت عبر هذا الجسر الجدلي، بما في ذلك الحضارة الإسلامية، ولا تزال النماذج المعرفية الكبرى واقعة رهينة هذه الثنائية التصارعية إلى اليوم، ما يؤكد بأن الحقيقة ذاتها هي أداة الصراع وليس فقط هدفه.
فليس إذا سهلا مثلما يحمله المتسطحون من أحكام حول إشكالات العلم المفهومية والعملية، التصدي لمعضلة صراع المشككين في العلم والنافين للميتافيزيقا بالانتصار لهذا الصف أو للصف الآخر، طالما أن لكل منها مثالبه والأخطاء التي بها يتم تناوله أو توجهه في معركة الحسم مع الوعي الوجودي الإنساني.
Post A Comment: