من أعوص قضايا اللغة في الأدب العربي المعاصر التي طرحت دوما على مستويي الابداع والنقد في الفضاء التدولي العربي “الدارجة” أو “العامية” بوصفها خصوصية في التعبير تُستعار في السياقات السردية، لجسر هوة الانفصال بين واقع لغة ولغة واقع حدثت بينهما قطائع جزئية لأسباب تاريخية معقدة، ليس يسع المقام هنا لحصرها.

وعندما نتحدث عن القطائع الجزائية، يبرز الكلي موضوعا على هامش في نقاشات بعض المتربصين بالثقافة العربية (الفصيحة) بوصفها عائق نمو والتطور وارتقاء في الخيال والابداع وفق ما يعبر عنه بكونه قوة المحلي (الجزئي).

من هنا انتصب السؤال صارخا، هل يمكن استحداث فضاء تعبيري محلي (دارج) خارج النسق العربي الفصيح؟ وهل الفصاحة عاجزة عن استنطاق (العالم الدارج) حتى يستعار من هذا الأخير ألفاظ أشيائه وأفكاره؟

شخصيا ما ساقني إلى تناول هذه الجزئية هو ما نشره موقع الثقافة الجزائرية الناطق بالفرنسية! نعم الناطق بالفرنسية والمهموم أكثر من غيره بشأن التعابير الأدبية ولغاتها ولهجاتها بالجزائر والفضاء المغاربي، حين بشَّر بقرب صدور أول رواية بالدارجة الجزائرية، ولم يذكر بأي خط ستكتب إن كان بالعربي أم باللاتيني؟

طبعا الفرنكفونيون في منطقة شمال إفريقيا، لم يهدأ لهم بالا من يوم دحرت الشعوب الاستعمار الفرنسي بعساكره ومعمريه ولغته من أراضيها، باكين على حضارة هُزمت على يد أبناء القرى والمداشر من أبناء الفلاحين المتعلمين في الزوايا والكتاتيب ومدارس الفقر الاستعماري، ومتابكين على دراجة لم ترتقي إلى مستوى البديل المعرفي الخلاق في تعابير الخيال والفكر، بوصفها لغة بسيطة تأسست في برزخ التاريخ حيث الانتقال من واقع حضاري إلى آخر بكل ما صاحب ذلك من تقلبات وصراعات.

ولئن كان غرض الفرنكوفنيين واضحا من تشجيع اللهجات المحلية واستغلال لغة الخطاب العلمي للالسانيات الذي لا يقم فرقا بين اللهجة واللغة ويجمع بينهما في الاصطلاح والمفهوم، للحديث عن كينونة ثقافية منفصلة تماما عن الفصحى، تفرض لغتها وسياقها التعبيري الخاص، وكل ذلك لا حبا في الدارجة ولا دفاعا عنها كمنتهى مطالبهم، بقدر ما هو قدحا ومحاربة للفصحى، والقضية الأساس لديهم هو القطع مع الامتداد الثقافي العربي والاسلامي واستعادة لغة الاستعمار كأساس ألسني توافقي موحد بين جل اللهجات التي تشكل فضاء التعبير الدارج بمنطقة شمال إفريقيا.

هذا لا يعني أن الفضاء الشعبي المحلي، يظل محكوما بالاقصاء من سياق التعبير الفصيح، كلا، لأن الكثير من صناع ونحاتي اللغة العربية الفصيحة، يؤمنون بأن الواقع الدارج مثلما نشأ من خلال تعثر الفصحى التاريخي، واكتمل تشكله من تقارب الزمان والمكان، كما كان الشأن مع لغة الاستعمار، سواء تلك التي فرضها بأشياء القوة أو بقوة الأشياء التي اخترعها، يمكنه أن يسهم في تطور قاموسها، كما هو حال لفظة بلطجية على سبيل المثال لا الحصر، التي دخلت القاموس السياسي والاعلامي بمنطقة المغرب العربي في أثناء تموجات أحداث الربيع العربي، حتى أن البعض لا يزال يلوكها دون أن يعرف أي شيء أن أصلها وفصلها، واكتفى بمدلولها العملي.

فالواضح إذا هنا أن الدارجة العربية، ما حملت صفة العربية سوى لان لها أصل عربي، وبالتالي فهي متدفقة من معين مرجعي فصيح تدرج بفعل غربة تاريخية عاشتها جدلية الانحصار القسري في الزمان والمكان لعقود وعهود عدة كان فيها اللسان الفصيح معتقلا ومخدرا حضاريا.

فالتعبيرات الدارجة التي يلجأ إليها بعض الأدباء ليس القصد منها محللة النص وإنما لتعريبه أي نقله بمنطوقه المحلي الذي هو في غالبا في الصل عربي، حتى يقدم للمتلقي ما ترسخ من معنى فاض به المكان الخاص وربما بأكثر أو بخلاف ما يفعله ما يقابله من لفظ يحمل معتاه في مكان عربي آخر.

وليس هذا مما يضر الفصحى في شيء، بل بالعكس يسهم في إثرائها، ولعل ما يغفل عن الكثيرين هو أن ألفاظا وأسماء عربية حُرفت بسبب سوء النطق من قومها وعادت إلى القاموس العربي تحمل مفهوما جزئيا غير الذي تأسست عليه تاريخيا في التعبير الفصيح، مثلما هو الحال مع لفظة ترسانة التي هي في الأصل “دار الصناعة” لم يكن بوسع الاندلسيين الاسبان النطق بها عربيا فجمعوها نطقا وكتابة باللاتينة بعدما تطورت اصطلاحا لديهم وصارت تعني مجموع الامكانيات التقنية القادرة على بلوغ الهدف، وهو المفهوم الذي يُحمل في اللغة العربية الفصحى اليوم أو يكاد.

إن دعاوى التأسيس للخيال الأدبي خارج إطار الفصحى إنما يستهدف ليس اللغة فحسب وإنما النسق الثقافي برمته، ويروم نسفه نسفا، على اعتبار أن للتعبير صلة وثيقة بكل موقومات الثقافة الأخلاقية منها والعاداتية، والمنظور الكوني لها، فمثلا في الفرنسية، يقوم التعبير الدارج والفصيع على البراغماتية العملية التامة في التعاطي مع الواقع، إذ أن العديد من الجمل والعبارات لا يقام لمدلولها الاخلاقي اعتبارا  لتمرير المراد تمريره مهما حملته من معاني وألفاظ خاذشة بالحياء، هذا الحياء لا يريد أعداء العربية الفصحى سماعه لحيادية اللغة وانفصالها عن القيم الاخلاقية، فمن هنا نراهم يعتورون الفصحى ويعتبرونها عائقا عقليا وتاريخيا ونفسيا للتعبير.

هذا الفهم المخلوط والمغلوط ساهم فيه التيار المحافظ في عدم اقتحامه عالم الخيال والمتخيل، متحججا ومتمرسا بلغة أخلاق لا أخلاق اللغة، وبذلك فوت على نفسه فرصة الارتقاء بالفصحى إلى معالي معاني التاريخ بحرمانها من تناول أشيائه وفق تعبيراته التي نشأت في الأصل قبل أن تنفصل من المركز وهي حائمة اليوم بمدلول الدارجة على هامشه.








Share To: