لا ليس سخيفا ما رويته له حتى يضحك كل ذلك الضحك، نعم كان ذلك أو طائر ورقي صنعته من ورق كتاب الشعر، ولما أن استدار أستاذ الرياضيات تجاه السبورة خشيت أن يكون قد رآني متلهيا عن ارقام معادلاته بصناعة طائري الورقي، فطوحته من النافذة ويا ليتني ما فعلت، استفقت من ألم الفلقة وهي تحرق قدمي لأرى والدي قبالتي أمامي بمكتب الناظر حضرا حصة تعذيبي أو تأديبي وكم ذاب من عرق خجله وهم يكشفون له عما اكتشفوه بورق طائري لما أن فككوا تركيبته، عنوان كبير لقصيدة “حبيبتي أنتظرك”
أمي لطمت خذها وضربت صدرها لما أن حكى لها أبي الأمر ورمقتني بنظرة خطرة:
- أولم تجد إلا معلمتك يا وقح !
أمي لم تدرس الرياضيات ولا الفيزياء ولا حتى مبادئ الصدفة في الفلسفة، فكيف لي أن أقنعها بأن حركة الرياح تآمرت علي، واستدار بفعل قوة واتجاه دفعها لطائري الورقي فدخل غرفة التدريس المجاورة وسقط تحديدا بمكتب مدرِّسة اللغة العربية!
مسح صديقي السوري الدموع من أثر الضحك من عينيه وهو يرتشف ما تبقى من كأس الشاي الساخن ويضرب بإبهامه مؤخرة السيجارة لتلقي على صحن مطفأة السجائر الزجاجية السميكة ما احترق من قًبها وكان رمادا كبيرا لكونه تناسى السيجارة وارخى مطولا السمع لحكايتي عن طائري الورقي ولم يأخذ من الدخان إلا نفسا أو اثنين، ثم قال لي بعد أن صمت قليلا:
- تعرف ربما أنت حق، لا تروي حكايتك القديمة هاته للشرطة إذا ما شكت في طائرك الورقي الجديد..
- ولمَ؟
- لربما ظنوا أنك تلمح للرئيس الفرنسي الذي ركب معلمته للغة الفرنسية يوم كان في مثل سنك.
ثم انفجر مجددا ضاحكا
- ولكنه لم يُضرب يومها في مكتب الناظر على بطن قدميه بل صار رئيسا للبلاد، وأنت لم تقبل معلمتك حتى!
أوجعني بسخريته تلك، لكني فعلا خشيت مثل هذا المصير، هؤلاء الغربيون يقرأون الملامح المرسومة والتلميحات المنطوقة بدقة، غير أنه ما حيرني أكثر هو جرأة هذا السوري اللا محدودة، كان يظن أني أنا القادم من جنوب المتوسط لا أفهم ما الذي يفعله بطائر الدرون الذي اقتناه من ثاني شهر حلوله ببرلين هاربا من مطر البراميل المتفجرة بأرياف سوريا، من محل خاص ببرلين، وحين اتصنع الجهل بما يعمل ويقطر سكوتي في عينيه أسئلة، يتذرع بأنه "التجسس"
- الغربيون ما غلبونا إلا بالتجسس وظللنا سنين نرد بالتحسس فقط
لم أضحك كما يفعل بنوباته الجنونية كلما رويت له شيئا عملته في موضع مقدمي، سواء فيما استقبلت أو استدبرت من العمر.
دعك السيجارة بقوة بصحن المطفأة، بعدما سحق نصفها المتبقي بنفس قوي واغْمضَّت لشدته عيناه، ونفث دخانها كالتنين في أساطير الصين، من منخريه وبعضه من شفتيه ثم هم قائما يسوي جاكيته الذي علا حزام سرواله من أثر الجلوس مطولا وقال:
- على العموم لا تقلق، فحتى لو وجدوا طائرك الورقي فلن يفهموا ما هو مدون عليه بالعربي أنت الآن بألمانيا، فقط أخبرني:
- من أي كتاب قطعت ورقة الطائر؟
هزني السؤال وروحت، بعدما غادر، أبحث في مكتبتي الصغيرة عن أي من الكتب التي حملتها معي من الشرق إلى ألمانيا، كانت سمكية وصفراء وأرواقها عديدة أرهقني البحث في أحشاء الكتب تلك.
ازداد قلقي في تلك الليلة التي قضيتها بين نشرات الاخبار الجوية وجرسي الباب والهاتف انتظر الجديد، أقيس حركة الريح والغيوم ثم استرحت لنظرية ذلك الشيخ السعودي وقلت فعلا الارض لا تدور وليرحل الطائر الورقي إلى ما لا نهاية من التراع المنبسطة، فجأة هزني طرق قوي على الباب، رعب برك بثقله علي، قلت هي الشرطة الألمانية تحمل طائري الورقي الذي خرج عن سيطرتي يكون قد سقط على أحد مبانيها، فما السبيل لأشرح لها أنها ليست طلاسم سحر الشرق ولا رموز تجسس بل هي لغتي العربية استمتع بالطيران بورقها مذ حلمت بالطيران، وعملت بنصيحة صديقي المهاجر السوري فغلّقت أبواب ونوافذ الذاكرة حتى لا اخطئ واحكي لهم في التحقيق واقعة طائري الأول مع معلمة العربية فيسلمونني للشرطة الفرنسية بتهمة التلميح والإساءة لقصة حب ماكرون العجيبة وفقا لاتفاقيات تسليم المجرمين الموقع عليها بين دول الاتحاد الاوروبي !
فتحت الباب على لكمة قوية والرجل قد جثم على صدري بعدما وقعت من شدة الضربة على الأرض وهو يصرخ بوجهي ملوحا في ناظري بطائري الورقي المؤطر بعيدان من القصب:
- الرياح لا تصادف أو تصادق أحدا غيرك يا جلف الصحراء، هذا ورقك قد سقط ببيتنا وعليه قصيدة "إيميس الحبيبة سأعود إليك"
- من إيميس؟
- من إيميس؟ هي أختي التي لم تخرج من البيت مذ وصلت هاربة إلى المانيا، هيا تكلم، كيف عرفت أن لي أخت بهذا الاسم؟ وكيف تجرأت على أن ترسل لها متغزلا بهاته القصيدة القديمة؟
أخذت الورقة وقرأت في الزاوية السفلى من اطارها عنوان الكتاب فأدركت أني اقتطعتها من كتاب في تاريخ الشعر عن جمال مدينة حمص زمن ما كانت تسمى إيميس، فهمتها له فسكت دون أن يقتنع، لأن حركة الرياح التي تتآمر معي باتت لديه غريبة.
خرج من عندي ولحقته بناظري من النافدة وهو يرسل بالدرون باتجاه فيلات الضاحية الكبرى لبرلين حيث تقيم كاثرين الشقراء معشوقة عينيه، لم أتمكن من رؤيتها تسبح عارية بإحدى البرك الفارهة من على هاتفه الذكي لكنه، بدا قلقا ومتوترا وقلت ربما خرج الدرون عن السيطرة وهو يرى دخان مطابخ السوريين المتكاثرة اليوم بالأحياء الشعبية ببرلين، ضحكت كثيرا ثم لحقت به خوفا من أن يكون طائر الدرون قد وقع في قسم للشرطة، وإذا بي أجدها على شاشة هاته جميلة جدا شقراء، بعينين خضراوين محفوفتين بسواد البارود اللماع، بشفتين منحوتتين أدناها أغلظ من أعلاها، ليس متعرية ولا سابحة في الماء، وإنما تتناول سندويتش خفيف، وهو لم يزله يضغط على أزرار هاتفه يستحثه تحويل البث قلت له:
- ما بك ألا تريد أن تستمع بصورة كاثرين؟
استدار متفاجئا لرؤيتي خلفه:
- وأين هي كاثرين؟
- هي ذي أمامك بشاشة هاتفك الذكي!
- هاتفي الذكي؟ نعم مثل ذكائك! هذي أختي "إيميس" يا أبله تتناول سندويتش فلافل بحديقة بيتنا !
Post A Comment: