بعد أن فرغت من الحديث والكتابة عن الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة في سيرته الشعرية كان لزاماً عليّ الكتابة عن صديقه وزميله وتَوْءَم روحه الشاعر الكبير فاروق شوشة(1936م- 2016م) في سيرته الشعرية المعنونة ب(عذابات العمر الجميل).
فاروق شوشة هو الآخر يمثّل أبرز الأصوات الشعرية المهمّة في الشعر المصري خاصة، والشعر العربي عامّة. وهو- أيضاً- أبرز أجيال شعراء الستينيات، على الرغم من اعتراضه لهذه التسمية.(راجع كتابه عذابات العمر الجميل(سيرة شعرية)ص88، الطبعة الثانية1997م دار غريب مصر).
وفاروق شوشة غنّي عن التعريف. فهو شاعر وناقد وإعلامي ومعجمي(الأمين العام لمجمع اللغة العربية).
ولد الشاعر فاروق شوشة بقرية الشعراء بمحافظة دمياط. أتم دراسته في دمياط، وتخرج في كلية دار العلوم1956م، وفي كلية التربية جامعة عين شمس1957م.
عمل مدرساً سنة1957م،والتحق بالإذاعة سنة1958م، وتدرّج في وظائف لغاية ما أصبح رئيساً لها سنة1994م، وقد عمل أستاذاً للأدب العربي بالجامعة الأمريكية في القاهرة.
أهم برامجه الإذاعية:
لغتنا الجميلة، من سنة1967م، والتلفزيونية(أمسية ثقافية)من سنة1977م
عضو مجمع اللغة العربية في مصر.
رئيس لجنتي النصوص بالإذاعة والتلفزيون، وعضو لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، ورئيس لجنة المؤلفين والملحنين.
شارك في مهرجانات الشعر العربية والدولية.
دواوينه الشعرية:
إلى مسافرة1966م.
العيون المحترقة1972م.
لؤلؤة في القلب1973م.
في انتظار ما لا يجيء1979م.
الدائرة المحكمة1983م.
الأعمال الشعرية1985م. لغة من دم العاشقين1986م.
يقول الدم العربي1988م.
هئت لك1992م.
سيدة الماء1994م.
وقت لاقتناص الوقت1997م.
حبيبة والقمر(شعر للأطفال)1998م.
وجه أبنوسي 2000م.
الجميلة تنزل إلى النهر2002م.
من أعماله النثرية:
لغتنا الجميلة عام1967م.
أحلى عشرين قصيدة حب في الشعر العربي.
أحلى عشرين قصيدة حب في الحب الإلهي.
العلاج بالشعر.
لغتنا الجميلة ومشكلات المعاصرة.
مواجهة ثقافية.
عذابات العمر الجميل(سيرة شعرية).(ويكيبيديا بتصرف).
في سبع لوحات أدبية يلخّص لنا الشاعر الكبير فاروق شوشة تجربته الشعرية، أو سيرته الشعرية التي تجاوزت لأكثر من أربعين عاماً. وهي سيرة شعرية مليئة بعذابات العمر الجميل، وما أجمل هذه العذابات!، ولكنّها عذابات تكلّلت بالعمر الجميل، رسمها الشاعر أو رسمته بالحب والحزن والمكابدة والمعاناة والانكسار والغربة والرحيل والإبداع والأمل والوصول إلى الحلم.
عنون الشاعر فاروق شوشة سيرته الشعرية بالعناوين التالية:
اللوحة الأولى: بيت فوق الشجرة
اللوحة الثانية: أمومة الشعر
اللوحة الثالثة: تحولات الخمسينيات
اللوحة الرابعة: الشعر والوعي
اللوحة الخامسة:بين الجامعة والإذاعة
اللوحة السادسة:مع القصيدة الجديدة
اللوحة السابعة: بين الناقد والمبدع.
في اللوحة الأولى التي جاءت أشبه بالتمهيد. وهو وصف عام لطفولته وقريته، ومراحل تعليمه الابتدائي، ومنزله الذي رضع منه بواكير قراءاته الأولى.
(... في ركن صغير من أركان غرفة الجلوس، كان مكتب صغير لأبي، لم يقترب منه أبداً أحد من أهل البيت، ولم يكن أبي يقصده أو يفتحه إلا في المناسبات والأحداث الهامة. وعرفت فيما بعد أن في بعض أدراجه المغلقة ودائع وأمانات لعدد من أقاربنا، وأوراقاً خاصة بأبي. كان مجرد التفكير في لمس هذا المكتب من المحظورات، ولكن عزلتي الطويلة داخل الغرفة، وإحساسي بضراوة السجن الذي بدأت أعيش فيه، جعلاني أقترب من المكتب، وأكتشف – مندهشاً- ان الدرج الرئيسي به مفتوح، وأنه يضم عدداً من الكتب والمجلات، سرعان ما امتدت يدي إلى تقليب العناوين والصفحات: كتاب صغير الحجم هو(الشوقيات) لأحمد شوقي في طبعتها الأولى التي أصدرها شوقي قبيل مستهل القرن العشرين وكتب مقدمتها بنفسه، ومختارات من روائع النثر والنظم- يبدو أنها كانت مقررة على طلاب معاهد المعلمين- التي تخرّج فيها أبي، ومختارات البارودي- الجزء الأول منها- لعدد من شعراء التراث العربي، وأعداد ضخمة من مجلتي الرسالة والرواية اللتين كان يصدرهما أحمد حسن الزيات- قبل أن يضمهما في مجلة واحدة- يبدو أن أبي- ككثير غيره من المعلمين- كان مشتركاً فيهما، وكانتا تصلانه بانتظام كل أسبوع، وتجمعت لديه حصيلة سنوات متتابعة، وعد من الكتب الأدبية الأخرى أذكر منها الآن النظرات لمصطفى لطفي المنفلوطي والشاعر أو سيرانو دي برجراك، وقد كتب عليه:(بقلم المرحوم مصطفى لطفي المنفلوطي) وهي خلاصة الرواية التمثيلية التي وضعها الشاعر الفرنسي العظيم(إدمون روستان) وعرفت بعد أن بدأت في قراءة الكتاب أنه مترجم. من بين هذه الكتب أيضاً قصة(مجدولين) أو(تحت ظلال الزيزفون) تأليف الكاتب الفرنسي الشهير ألفونس كار ملخّصة بقلم المنفلوطي أيضاً، والغريب أنها كانت الطبعة الرابعة من الكتاب مؤرّخة أول نوفمبر سنة1923م عن المطبعة الرحمانية بالخرنفش بمصر.(عذابات العمر الجميل.. سيرة شعرية) ص32-34 دارغريب/القاهرة الطبعة الثانية1997م.
ثم يمضي الشاعر فاروق شوشة فيقول:(لكن الكتاب الذي يستوقفني أكثر من بين ما احتوته مكتبة أبي المتواضعة- والذي سوف يصحبني أمداً طويلاً-هو كتاب(الشعراء الثلاثة): شوقي ومطران وحافظ) تصنيف حسن السندوبي صاحب جريدة الثمرات، وكان في طبعته الأولى التي صدرت سنة 1922م عن المكتبة التجارية بأول شارع محمد علي بمصر. كان الكتاب يضم صوراً فوتوغرافية للشعراء الثلاثة طال تأملي فيها وتفرّسي في ملامح كل منهم، ومقدمة ضافية كتبها الأديب والصحفي حسن السندوبي عن(حاجة الأدباء والناشئين إلى مثل هذا الكتاب الذي يضم بين دفتيه جمهرة مستصفاة من عيون ما جادت به القرائح الفياضة لأكابر شعراء هذا الزمان الذين هم بلانزاع- في رأيه-(القمة والجبهة والصدر للطبقة الأولى من شعراء هذا العصر وهم شوقي ومطران وحافظ).
لقد لمست دون أن أدري باب هذا العالم السحري الغامض المسمى بعالم الشعر، ولم تفتح يدي مجرد درج من أدراج مكتبة أبي، وإنما فتحت عالماً غريباً حاشداً ورائعاً، استغرقني وتملّكني، حتى لقد صار مبعث الدهشة في بيتنا أن يجدوني كل يوم من الصباح الباكر، وقد خلوت بنفسي في غرفة الجلوس، ونشرت أمامي على الأرض هذه المقتنيات والكنوز من الكتب والمجلات واستلقيته على صدري ورحت أقلب فيها، وأتوقّف بالتأمل هنا وهناك، وأنا من شدة اللهفة والتوق أتعجّل نهاية قصة أو أتطلّع لخاتمة موقف أو قصيدة، وأقفز بعيني فوق السطور على أمل أن أعود ثانية لقراءة سهلة متفحّصة، ثم أكتشف أن ما استوعبته في حدود قدرتي على الفهم والتذوق هو أقل القليل، لكنه القليل الغامر الذي يملؤني ويفيض عني).(المرجع نفسه ص38- 40).
ثم يمضي-أيضاً- الشاعر فاروق شوشة في صفحات أخرى من سيرته فيقول:(هذا العالم- الرحب، الغزير، المتنوع، بين ماض وحاضر، ونثر وشعر، وحب وبطولة، وأساطير وواقع،هو الصفحة الأولى من قراءاتي، والموجة الأولى من تأثراتي واهتزازتي، واللوحة الأولى في تشكيل ملامح تصوراتي وقدرتي على الإحساس والتذوق والتأمل- سبقه بسنوات قليلة وإن كان قد تفاعل معه وأذكاه، جو مفعم بالرهبة والخوف والخشوع، عشته في (كتاب القرية)، عندما دفع بي أبي في سن الخامسة لحفظ القرآن، ومجالسة الحفظة الذين يتهيّأون للالتحاق بالأزهر، لأكون بعد قليل واحداً منهم، آخذ طريقي إلى التعليم الديني.
وقد أتيحت لي خلال العامين اللذين قضيتهما في كُتاب القرية أحفظ القرآن وأجوده تجربة دينية ولغوية، أما التجربة الدينية فقد طغت عليها مشاعر الخوف والرهبة وصور العذاب والإنذار والتقريع ومشاهد الهول والجحيم، بأكثر مما اتسعت للوحات المشرقة الرضية والسمحة من النسق القرآني، نتيجة للجو الذي يسود الحياة عادة في الكتاب، وطريقة العقاب التي تلاحق الجميع عند أدنى هفوة أو سهو أو خطأ، وكان أداء عريف الكتاب والحفظة الذين يكبرونني كثيراً- معه- أداء مخيفاً مزلزلاً، يملؤني بصور الموت والعذاب والجحيم والأهوال.
وأما التجربة اللغوية فتمثلت في ذلك التدريب الصوتي والمران الذي مارسته دون أن أدري مع مخارج الأصوات والحروف، والمد، وقواعد التجويد، وأنواع النبر والوقف، وتدريب جهازي الصوتي على النطق السليم المبين، وهو ما بدأت أحس بقيمته عندما انتظمت في الدراسة الابتدائية، ولم التحق بالأزهر الذي كان يتطلّب انتظاراً حتى سن الثانية عشرة وهي الحد الأدنى للقبول.
واكتشفت خلال مراحل الدراسة الابتدائية والثانوية أن علاقتي المبكرة بالكلمة القرآنية والنسيج القرآني على مستوى التجربتين: الدينية واللغوية، قد أكسبتني رصيداً هائلا من القدرات والمهارات والوعي المبكر يفوق ما لدى رفاقي وأقراني بكثير. واصبحت حصة اللغة العربية ودرس الأدب العربي بفضل هذا الرصيد أقرب الدروس إلى نفسي وعقلي، بقدر ما كانت عذاباً ومحنة للآخرين.
وعندما أنظر الآن إلى تجربتي الشعرية، التي تشكّلت ملامحها الأولى في ذلك العهد البعيد، أدرك كم أنا مدين شعرياً لهذه العلاقة الحميمة مع هذا المناخ القرآني تصويراً وتشخيصاً، وتناسقاً واتساقاً، تخييلاً وتجسيماً، توافقاً وافتناناً في الموسيقى، وإخراج المشهد واللوحة)(المرجع نفسه ص48و49و50و51).
أما بقية اللوحات ،أتركها للقارىء كي يقطف منها كنوز هذه السيرة العطرة.









Share To: