بوادر انفراجة:

كان الخديوي توفيق قد أبدى التعاون الكامل مع الانجليز منذ حلولهم بمصر ولكن ابنه عباس حلمي الثاني الذي تولى بعد أبيه مباشرة قد ضاق ذرعا بالإنجليز ورغب في التخلص من الاحتلال فأقال مصطفى فهمي وعين حسين فخري باشا فكان هذا أول اصطدام له معهم فقام اللورد كرومر بنثر عبارات التهديد والوعيد وأن أي إجراء صغيرا كان أو كبيرا لابد من العودة لانجلترا حيث أنها صاحبة الكلمة العليا فأزاح الخديوي الشاب حسين فخري ورفض رفضا قاطعا بإعادة مصطفى فهمي وعين رياض باشا.

هذا الموقف وإن كان خضوع مذل للاحتلال إلا إنه قوى المعارضة التي كانت ناتئة على جسد الدولة المصرية آنذاك وضاعف من عدد الناقمين على الاحتلال.
وزارة مصطفى النحاس:

كانت الأخطار تحاك بمصر في الداخل والخارج، فالحرب العالمية الأولى لا تتوقف والداخل متداعي وهذا يتطلب اتحاد جميع الأحزاب في مواجهة جملة الأخطار التي تواجهها مصر، فأسند الملك فاروق رئاسة وزراء مصر لمصطفى النحاس وطلب منه تأليف وزارة قومية ولكن النحاس رفض وأبى ألا تكون الوزارة وفدية وأعضائها من حزب الوفد فلما علم السفير البريطاني برفض النحاس تأليف الوزارة أرسل للملك فاروق إنذار هذا نصه:

«إذا لم أسمع قبل الساعة السادسة مساء أن النحاس دعي لتأليف الوزارة فإن جلالة الملك فاروق يجب أن يتحمل ما يترتب على ذلك من نتائج»

وعقب ذلك مباشرة حضر السفير بصحبة الجنرال ستون قائد القوات البريطانية في مصر وبعض الضباط الإنجليز يحملون المسدسات والقصر محاط بالدبابات الإنجليزية في مشهد استعراضي، وقدم السفير نص تنازله عن العرش في حالة رفضه الإنذار البريطاني، وهنا تدخل بعض خاصة الملك بإقناعه بالعدول عن موقفه ووافق الملك (المهم أن يبقى ملك حتى ولو كان ذليلا يستأذنهم قبل أن يدخل الحمام) وقام بتكليف النحاس بتأليف الوزارة وهنا أود أن أقول بصوت عال لماذا أصرت انجلترا على مصطفى النحاس وهل المحتل يدعم ويصر على شخص يحمل الخير لجموع المصريين؟
مصطفى كامل:

هذا الشاب المخلص الذي ما فتئ يكتب عن مقاومة المحتل بالصحف المصرية ويشرح القضية المصرية للرأي العام العالمي خاصة فرنسا المنافس الطبيعي لانجلترا فلما تبينت له حقيقة فرنسا عندما اقتسمت مع انجلترا استعمار الدول أيقن أن الدول الأوروبية ليست إلا ثلة من اللصوص وما على مصر إلا الاعتماد على نفسها وهنا ألف الحزب الوطني والذي كان من أجل أهدافه الجلاء العاجل والحرية التامة وبعث الدستور ولكنه مات في الرابعة والثلاثين من عمره وأكمل ما بدأه رفيقه محمد فريد الذي أمسك بمشعل الهداية، أفنى ثروته في العمل الحزبي وأغراه الانجليز بالوزارة ليشتروا ولاءه ولكن محاولاتهم باءت بالفشل، فقد كان مخلصا لا يباع ولا يشترى وكان كالغصة في حلوق الانجليز يحفز الشعب على المظاهرات والوقوف ضد خطط المحتل، نفي خارج البلاد أواخر سنوات عمره وتوفي خارج مصر ثم أعيد رفاته إليها في احتفال شعبي مهيب.
مشروع برونيات:

مصر في عين انجلترا ليست إلا مستعمرة بريطانية ولكنها بحاجة إلى صك ممهور، السير وليم برونيات أعد مشروع لتعديل القوانين والنظم الإدارية والقضائية بحيث تساير نظام الحماية الانجليزية على مصر، إنشاء مجلس نواب سلطته استشارية، بجانبه مجلس شيوخ يملك السلطة التشريعية، أغلب أعضاؤه خليط من الانجليز والأجانب وقليل من المصريين (كما هو الحال في وسط وجنوب أفريقيا) وقد قدم المشروع عام 1918 لحسين رشدي باشا رئيس الوزراء للتوقيع عليه وليس لمناقشته ولكن رد حسين رشد كان شديد اللهجة ونقد المشروع وبمجرد أن أشيع المشروع ورد رئيس الوزراء كان له وقع سيء في نفوس المصريين بعامة ولولا قيام ثورة 1919 لنفذ المشروع ولأصبح المصريون غرباء في بلدهم وقبل نشوب الحرب العالمية الأولى 1914 كانت انجلترا قد صبغت مصر بصبغة الحماية ولم يتبق سوى الإعلان الرسمي، واستغلت انجلترا الحرب وأعلنت الحماية على مصر في ديسمبر 1914 وبمقتضى قانون الحماية تم عزل الخديوي عباس وتعيين السلطان حسين كامل ولكنه مالبث أن توفي 1917 فتم تعيين السلطان أحمد فؤاد.
عواقب الحماية:

وبموجب الحماية قامت انجلترا بمصادرة المحاصيل الزراعية لتأمين احتياجات جيشها وجيوش حلفائها واستولت على ماشيتهم أيضا ومحصول القطن.

لم تكتفي انجلترا بذلك بل ساقت مليون ونصف المليون من الفلاحين والعمال لمعاونة جيوش الحلفاء بتمهيد الطرق وحفر الآبار في سيناء وفيافي الشام، وكان هؤلاء الجنود يعاملوا أسوأمعاملة، فلا اهتمام بصحتهم ولا غذائهم وكانوا يربطون بالحبال كالأسرى أو العبيد ومات الكثير منهم في صحراء سيناء او العريش، أو في العراق وفرنسا، وقد روى العائدون منهم قصصا من ألوان العذاب، والكثير منهم أصيب بالأمراض والعاهات مما جعل هذا الحدث لأن يكون شرارة ثورة 1919 ، استولت انجلترا على السكك الحديدية لنقل الجنود والمؤون والذخائر طوال مدة الحرب .

وقد تنازلت مصر مجبرة على مبلغ ثلاثة ملايين من الجنيهات كانت قد أقرضتها مصر لانجلترا أثناء الحرب وأجبرت أيضا على التنازل عن نصف السودان.
ديدن المحتل:

طوال أيام الحرب أذاق الانجليز المصريين الخسف وسوء المعاملة وفرض الرقابة على الصحف وفرض الأحكام العرفية ونشر الجاسوسية والوشاة بين المصريين والقبض على الكثير والزج بهم في السجون دون محاكمة أو نفيهم وتشريدهم خارج البلاد وعبث جنود الانجليز والحلفاء بكرامة المصريين والتعدي على أموالهم وممتلكاتهم وأعراضهم.

بعد انتهاء الحرب طالب المصريون بإنهاء الحماية على مصر ولكن انجلترا راوغت ولم تقبل بل إن مجرد عرض الأمر على المندوب السامي البريطاني رفض رفضا قاطعا، فقام سعد زغلول مع علي شعراوي وعبد العزيز فهمي بتقديم طلب للمندوب السامي للسماح لهم بالسفر إلى انجلترا كوفد ممثل لمصر لبحث الشأن المصري ولكن المندوب استنكر هذا عليهم وأنهم لا حق لهم في ذلك رغم أن سعد زغلول وكيل الجمعية التشريعية ورفيقيه أعضاء بها ورفض المندوب السامي السماح لهم بالسفر وطلب منهم تقديم مقترحات عن كيفية الحكم في مصر على أن لا تخرج عن الخطة التي رسمتها حكومة انجلترا كي لا تتعدى دائرة الحماية التي فرضتها من قبل.

اعتبرت انجلترا رفض سعد زغلول ورفيقيه محمد محمود باشا وإسماعيل صدقي وحمد الباسل تمرد وعصيان فقضت عليه ورفيقيه بالنفي في جزيرة مالطا مما دعا المصريون بالخروج في مظاهرة لرفع الظلم عن سعد ورفيقيه فقال عنها برونيات: «إنها شعلة تطفئها بصقة»

 أعلن المصريون الإضراب العام والعصيان المدني والمطالبة بأحقية مصر في الاستقلال ورفض الحماية البريطانية، وامتدت المظاهرات إلى كل فئات الشعب من طلبة وموظفين وعمال ومدرسين وفلاحين.

وللحديث بقية إن شاء الله







Share To: