عادة ما يحضر النقد السياسي في المنتج الأدبي العربي المعاصر في فضاء الشعر، يقابله حضور للمدح والتزلف طبعا، بينما تنصرف جهود الروائيين في نقد الواقع الاجتماعي ومستويات الوعي التي تصنع في النهاية الخيبة السياسية، من ديكتاتورية قمعية، وفساد واستبداد، الأمر الذي يطرح أكثر من سؤال حول الأس الخاص أو الخصوصي في الظاهرتين الذي جعلهما في الغالب الأعم والأعظم يمضيان على هكذا منوال في الفضاء التداولي العربي.

في البدء تنبغي الإشارة إلا أن التعبيرية الأدبية العربية في أساسها ومكنون طبيعتها شعري، متصل بطبيعة المكان ومكنوناته، والبنية الاجتماعية العربية ذات النسق الهرمي في كل سلطاتها وعبر كامل مستوياتها من الأسرة إلى القبيلة وصولا إلى الدولة التي كان لها من ذلك، ملامح في سيرورة تشكلها، وبالتالي غلب الجانب الشاعري كفضاء مفتوح مطلق مرتبط بعصبية الهرم الأسري من أبوية مطلقة مترسخة في وعي الفرد والجماعة، وبهذا استحال دوما المسئول الأول من قائد على زعيم على والد أحيانا، تُضرب له معازف المدح وتُطرب بحضوره النفوس من خلال ما يُكال له من شعر.

لكن التطور النسبي الذي صاحب وعي الانسان العربي بالدولة كمفهوم وممارسة خارج تأثير البنى التقليدية، التي استقام في الكثير من التجارب القُطرية العربية عليها الكيان السياسي، أفرزت تيار نقيض للمدح، تيار يذم ويهج واقع السلطة وممارستها الاستبدادية المستأصلة لحضور الانسان العربي بوصفه موقف من التاريخ وليس بضاعة منه وشيء من أشيائه يتصرف فيها التفكير والتدبير الأحادي الزعامتي كيف يشاء.

لكن ظل النقد السياسي في الشعر العربي في الهجاء والذم كما المدح مباشرا، متناولا لواقع الأمة المسئولية الفوقية، باعتبارها مصدر إما فخر بالنسبة للمادحين أو خراب بالنسبة للمعارضين الهاجين.

أما في الرواية وما يسبح في مدارها السردي من صنوف أخرى، يبدو الإنتاج موغلا في الأعماق السحيقة للاجتماعي والمجتمعي، ويتم تناول إنسان الهامش المهمش (المواطن) باعتباره مصدر الخراب ليس في المسئولية المباشرة، وإنما في غير المباشرة.

في السرد والرواية بوجه أخص، ينهار الوطن بتاريخه وجغرافيته على نفسه ليصبح كتلة واحدة ثقيلة مجسَّمة في شخص مواطن بسيط في حارة أو عشوائية معزولة، لكنه محمل بكل أعباء التاريخ الوطني، في فكره، أخلاقه، مواقفه وشاكلة رؤيته لذاته بإزاء الجدران التي تحيط به من كل جانب، جدران الحارة والعمارة، ليستحيل من مواطن إلى سجين خارج الأسوار القارة.

فالرواية، لكونها ابنة المدينة كما يخصر ويختزل في تعريفها التاريخي، تلك المدينة المغطاة بغابة من الجدران عكس البيداء المفتوحة على المطلق، تنفث في نفس الكاتب قلقا مركبا يحتاج إلى وسائل معقدة ينفذ بخياله من خلالها إلى عمق التعبيرية التي تشمل خصوصية اللحظة السياسية والاجتماعية، ففي المدينة لا يتجلي القائد الزعيم (الأب) كثيرا من وراء جدران الحارة والعمارة، وربما هذا ما يفسر جهد ورغبة الزعيم والقائد الأبوي في نشر صوره العملاقة على المباني العالية وينصب اصنامه والتماثيله في الساحات الكبرى للمدن العربية، لأن الشعر يخبو صوته في المدينة ويعلوا بالمقابل صوت العقل وخلف العمارة السامقة تكمن العبارة العميقة المعقولة.

وهنا تتبدى نماذج عملية في التجربة العربية، إذ نجد في الفضاء السياسي البدوي على نطاقات الوعي كما الطبيعة، هيمنة الشعر، فمثلا في دول الخليج، التي كما وصفها محمد أركون، تمضي ليس في الحداثة وإنما فوق الحداثة، كونها مليئة في جغرافيتها الصحراوية بكل وسائل الحداثة كناطحات سحاب، ومصانع وغيرها، لكنها مستقرة في وعيها بالفضاء البدوي القبلي الهرمي في سلطته.

وتنعت موريتانيا ببلد المليون شاعر، لحضور التعبيرية الشعرية كصنف غالب على كل الأصناف الأخرى وهذا بمقتضى البيئة الصحراوية المفتوحة والنمط الثقافي والسياسي الذي يحكم منظومتها الاجتماعية.

العرق ذاته رغم قوته النخبية عاش فترات طويلة من حضوره القطري المستقل تحت هيمنة التعبيرية الشعرية وتخلف فيه السرد كثيرا، وأعاز بعضهم ذلك إلى الطبيعة السياسية للمجتمع حيث الاستبداد الصراع السياسي ظل يعتمل بوحشية في البلاد، وبذلك فرض الشعر نفسه كبديل أول للتعبير سواء مدحا أو نقدا لما يتيحه بطبيعته وأدواته من فرص التواري عن المتابعة والعقاب.

في حين ظهرت الرواية قوية في مناطق البؤس المدني الكبرى أين كان يطحن الوطن والمواطن العربي معا في صمت، ذلك الصمت الذي لا يحتمل مثقال حجمه المهول الشعر، حتى لو عبر (الشعر) عن جروح ظاهرة لهذا الحضور البائس للمواطن المدني في التاريخ.

فجل الكتابات الأدبية الروائية التي ضربت السياسية وأجهزة الحكم في العمق، انطلقت من أزقة الحواري المفعمة بالرطوبة ووجع الانسان ومرضه فيها، وسقوط مشاريع الحب وتلطخ المرأة الحبية أو الزوجة بعار المطلق (البداوة) التي تحضر بالمدينة بوصفها ملمح بل منبت من منابت السلطة والسياسة بكل تعبيراتها الاجتماعية والثقافية، ولهذا كان حضور الرواية قويا وشاملا وعميقا في تناول أزمة السياسة والحكم في بلاد العرب المعاصر، وكان الشعر بمقابل ذلك (دونما تجني على الشعر) أضعف من أن يحمل الهم العربي في تعبيراته الفنية وفن تعبيره، لارتباطه العضوي والدائم بالفضاء المطلق الثقافي والطبيعي للإنسان العربي.

 







Share To: