أوكان الصِّدقُ خطيئةً حتى يكون الكذبُ عقيدة؟!

 لم يهتم "قاسم" إطلاقًا وهو يرى أخاه "علي بابا" يحمل كنز الحرامية أن يرى أين يذهب به؛ فقد كان متأكدًا أنه سيحمله إلى بيتهم، أخيرًا يقودهم "علي بابا" إلى الخير، بعد أن عاش ينفر من العمل، ولا يفعل شيئًا سوى أن يحمل زمارته ويُغنِّي. 
 لم يقنع برقَّةِ إحساسه، بل بقيت يده أيضًا رقيقة، ورغم ذلك ظلَّ أخوه "قاسم" يرعاه وينفق عليه.. ويقول:
ـ أخرج ألتمس في شمس النهار رزقي، أعود محملًا برزق كلِّ الأفواه. 
 جاء الوقت ليحملهم "علي بابا" على جناحيه إلى الرخاء والسَّعادة الأبديَّة، لكنه يُقرِّر أن يأكلهم من يده هذا اليوم أيضًا، ومن الغد يسلم لعلي بابا الرَّاية. 
ـ أكثر ما يخوِّفُني من هذا الثراء أن يحرمني من العمل، وقد كان العمل متعتي، لم أعرف متعةً أجمل منه، هل بعد الثراء سأجد الإحساس نفسه؟! أشك.. ما هذا يا "قاسم".. أتتبرَّم من الرزق؟! احْمَدْ ربَّكَ.. يا جدع..!
 ويعود إلى المنزل في المساء كعادته، يحمل طعام البيت، يعلم أن "علي بابا" يبحث عنه الآن بفروغ صبر، ليزفَّ إليه البُشرى، فكم حلم "علي بابا" بصوتٍ مسموع أن يعوِّضه عن كل ما يفعله من أجله.. 
 يدخل كأنه لا يعرف شيئًا، يلقي السَّلام على "علي بابا"، كالملتهم للصمت، يردُّ وهو منشغل بما يأكل، عيناه كأنهما قادمتان من مشوار بعيد، لا يفهم "قاسم" شيئًا، يفرد طعامه ويدعوه للأكل. 
 يأكل معه "علي بابا" كالمنصرف عن الأكل. 
ـ مالكَ لا تأكل؟! 
ـ لا نفسَ لي. 
ـ خير؟
ـ خير!
 أيكون "علي بابا" قرَّر الانفراد بالكنز؟ لا أثر للكنز في البيت، ولا يبدو في وجه "علي بابا" نيَّةَ إخباره به! أهذا هو النعيم الذي ظل "علي" يعدهم به، أم من تعلَّم أن يأخذ دائمًا لايعرف كيف يعطي، لا يعرف إلَّا أن يمدَّ يده؟! أنسي كيف كنتُ أبسط لحمي مائدةً ليأكل؟! هذا هو الجحود إذن! لأول مرة يراه كتابًا مفتوحًا، سطورًا واضحة، لا يدري أكان كتابه مفتوحًا دومًا وهو الذي لا يرى، أم لم يُفتح إلَّا اللحظة؟ 
 حانت منه التفاتة لعدة الحطب، ما زال في حاجة إليها، يحمد الله أنه لم يرجع اليوم إلَّا بطعام، قد جَهرَ "علي بابا" بجحوده وقرَّر أن يغتني وحده ولا يسدِّد ديونه، قرَّر أن يتنكر حتى لأحلامه التي طالما أتعب سمعهم بها. 
 بهدوء يقترب منه "علي بابا".. يقول له:
ـ أريد أن أتحدَّث معكَ في موضوع مهم. 
ـ تفضَّل يا علي.. وهل بيننا حواجز؟
ـ أحتاج فلوسًا أبدأ بها مشروعًا؛ تعبت من البطالة، أريد أن أعمل، وأكفيكَ نفسي، لقد تحملتني كثيرًا، أَكمِلْ جميلك. 
 لم يكن بحاجة لأن يتفرس في وجهه ليرى كَمَّ الكذب الهائل في عينيه؛ فللكذب رائحةٌ كالبنزين تزكم النفوس.. وعلي بابا هذه اللحظة يبدو مثل قطنة مثقلة بالبنزين، البنزين أثقل من قدرة مسامها على الاحتفاظ به، يتساقط منه، ينزُّ كذبًا، يحسُّ أنهما قد أصبحا في بركة من البنزين. 
ـ لكن لا مال معي الآن. 
 يقولها وهو ينظر إليه، يرى في عينيه لافتة استنكار، ولسان حاله يقول له: أتتخلَّى عنِّي؟!
ـ فعلًا، ليس معي. 
ـ لكن تقدر تتصرَّف، ثم إني سأردُّها لك عند أول دخل من المشروع. 
 يسود الصَّمت، وترتفع رائحة البنزين جدًّا، أيبصق في وجهه، أيصفعه ويقول له: كفاك كذبًا؟! لا يدري لماذا يطلب مالًا لايحتاج إليه، أهي حجة ضده؟ فلو لم يساعده يكون ذلك مبررًا للابتعاد عنه بكنزه، وإذن سوف يخرج يشكو للناس جميعًا: أخي يتخلَّى عني. 
مطلوب أن يعطيَه أو يرسب في الاختبار! لكن لو أعطاه هل ينتهي الأمر عند هذا الحد، أم سيتكرر الطلب حتى يشهر "قاسم" تبرمه، فيشيح "علي بابا" بنفسه عنه، ويبتعد بالكنز وحده؟ 
 ما كل هذا الإجهاد والتكلف؟! ولِمَ تلك اللفة الطويلة؟! أم لابد للجحود من شرعيَّة؟ عاريًا أمامه، ولا يدري.. لا يستطيع إلا أن يراه.. 
ـ لِمَ لا ترد؟ هل ستتخلَّى عني؟
ـ أنتَ تعلم أنني لا أملك. 
ـ لكنكَ تقدر أن تتصرَّف. 
ـ لكني زهقتُ منكَ، ومن كسلِكَ، قرفتُ، لم أعد أطيق رائحتكَ، لا أريدكَ، انتظرتُ طويلًا أن ترحل من نفسكَ، لكنكَ كالرائحة العفنة راكدة في مكانها، وأنفي لم يعد يتحمَّل! 
ـ هكذا! أتظن لأن ربنا أعطاكَ وأنا ضيَّق عليَّ تصبح رائحتي عفنة، على كل حال شكرًا، لكني أريد أن أقول لكَ شيئًا، قد ظهرت على حقيقتكَ، واعلم: أن الدنيا لا تدوم لأحد، النهارده معاكَ بكرة تبقى معي. 
ـ وأنا لم أتمنَ لأحدٍ أن يعطيه الله مال قارون سواكَ، ليس حبًّا فيك؛ بل لتبعدَ عنِّي.. فليغنكِ الله، لكن ارحمني. 
 يسود الصمت، والبنزين.. يعلم أن "علي بابا" يستدرجه، وقد حقَّق له ما يريد، ليرى آخر المطاف.. 
ـ اسمع يا "علي بابا"، لو أعطيتكَ ما تريد، لا تطلب مني ثانية.
ـ لا أريد منكَ شيئًا!
ـ لا تزعل منِّي، قد انفعلتُ، وأنا آسف! سأتصرف لكَ في المبلغ، فأنتَ لا تهون علىَّ. 
ـ لا أريد شيئًا!
ـ لأجل خاطري!
ـ لا، حتى لو قدَّمتَ لي مال قارون فلن أقبلَهُ!
ـ لماذا تمنعني أن أصلح خطئي؟! 
ـ أنا حرٌّ يا أخي، لا أريد منكَ شيئًا، لقد رأيتُ الدنيا تقبل عليَّ عندما عايرتني بفقري، وأحسستُ أن الله سيعوضني، ولن يتركني فريسة لتحكمكَ.. فلماذا أقْبَلُ تفضُّلكَ عليَّ، وأفسد الخير القادم نحوي؟!
ـ هذا شأنكَ، لكن اعلمْ أنني لم أتأخر عليكَ.. 
ـ بعد أيه.. ؟
ـ اسمعْ يا علي، أنا لا أريد منكَ شيئًا، وإذا كان قد ظهر لكَ باب رزق فربنا يباركُ لكَ، لا داعي أن تفتعل هذا الأمر لتمحو كل معروفي السابق نحوكَ، فإذا كنتَ لقيتَ كنزًا أو ما أشبه، فحلال عليكَ.. 
ـ كنز؟! ضحَّكتني يا أخي!! هو فيه حد بيلاقي كنوزًا هذه الأيام؟!
ـ يعني لو حدث، أنا لا أريد منه شيئًا، ولا أريد منكَ شكرًا، فقط لا تلبسني العمة..!
ـ يا عم! قلْ يا باسط.. أنتَ خيركَ عليَّ..!!
ـ بلاش النغمة دي يا علي، واسمع مني هذه الحكاية يمكن تغيِّر موقفكَ: هناك عند الجبل الغربي، كنت ماشيًا، لقيت واحدًا، العليم لله يشبهكَ، يدخل مغارة الحرامية، ويشتال شوال فلوس على كتفه، ويمشي، مشيتُ وراه، عرفتُ خبَّاهم فين، واستنيت لما مشى، وطلعتهم، وفي حتة العفريت الأزرق ما.. 
ـ يعني شفتني.. ؟؟
ـ هو كان أنت.. ؟!
ـ قاسم، بلاش تلعب معايا.. 
ـ ما أنت بتلعب من الصبح.. ؟!
ـ يعني خدت فلوسي.. سرقتني يا قاسم.. 
ـ أنتَ من شوية بتقول إنكَ مفلس، وجاي تستلف مني، يعني ربنا أعطاكَ وادعيتَ الفقر، أخذهم منكَ وأعطاهم لي عشان أما تطلب مني تلاقي.. 
ـ قاسم، قل لي وديت فلوسي فين؟؟
ـ أقول لكَ العفريت الأزرق لا يعرف مكانهم، يبقى سأعرف أنا؟!
ـ الموضوع لا يحتمل هزارًا، فلوسي يا قاسم.. 
ـ ليستْ فلوسكَ، دي فلوس الحرامية، سرقتَها منهم، وخبَّيتَها، وأخذتها أنا.. 
ـ سأقتلكَ.. دي حلم حياتي.. أملي..!
ـ معايا ومعاكَ واحد..!
ـ سأقتلكَ لو لم تقل لي أين كنزي.. 
ـ هكذا؟ نفترق.. فلوسكَ في مكانها ويمكنكَ أن تتأكد.. باي باي.. 
***






Share To: