رحل طاهرنا  ؛ ذَهب دون عودة ، ترك كل شيء ، غادر نحو الإله والجنة ،  أفل ضوءه ، صمتت نبراته ، توقفت ضَحكاته وابتسامته واكتملت أيامه وانكسرت عقاربه ، وتفتت ساعاته ، تَرك الأبناء والأحفاد والأصدقاء والأقران والأحباب خلفه ورحل هكذا دون أن يخبرنا . نام دون أن يطلق من أنفه صدأ ، أغمض عيناهُ وإلى الأبد ، توقف قلبه عن ضخ الدمِ لأجزاء الجسد ، مدد رجليه ووضع ساعديه على جانبيه وللثوبِ الأبيض أرتدى ، ومن زجاجة العطر تعطر وترك لنا العويل والنواح والبكاء.

يا ابن شريان ، وقت الظهيرة حين كانت مكبرات الصوت تصدح بالأذان وعبر مُكالمة هاتفية تلقيتُ قُنبلة رحيلكَ فصُعقتُ وفي جسدي فتحت التكبيرات  ثقوب وندبات ندبات ، علمتُ أنك رحلت فَتِهتُ تِهت ؛ دريتُ أنك قررتُ الغياب فبُهتتُ بُهِت وتمزقتُ تمزقت ، أنكسر عمودنا واُتلِفت أوردتنا يا طاهرنا .لماذا لماذا رحلت يا شرياننا وعمود قريتنا  ، هاهي القرية مُظلمة ويائسة  ، الجبال ترتعد حزنا ، الأشجار تتساقط رثاءاً ودموعا ، والحصوات يعزفن الموسيقى الحزينة عزفا ، ونحنُ ها نحنُ نرتشفُ الماء مالحا كأنه أتى من جوف البحر لا من رحم  السماء ، أشجار البُن المُحاذية لمنزلكَ يصرخنَ يُتماً وقهرا ويزفِرنَ  التنهيدات زفرا والخُنسيُ الكبيرة تَشهق بؤساً ويأسا وتلك الشجرةِ المُنتصبة جنب دارك من كنت تستظل تحتها ترثيك وتبكيك وتفتقدك يا طاهرنا . 

قبل لحظات أتى  والدي إلى منزلي ، وجهه مسودا من الحزن ، الحزن الذي خلفه رحيلك ، يبكي ويتنهد بحرقةٍ شديدة حتى شعرتُ أن قلبه سيقتلع ، لم أراه يبكي بهذه الحرقة أبدا ، طبطبت على جرحه الكبير، وقبضتُ خرقة من دولاب غُرفتي ومسحتُ دموعه الهاطلة ، واسيته حتى اقنعته بالقضاء والقدر وكلنا راحلون حتى عاد له النبض وقليلٍ من القوة، ثم بدأ يحدثني عن كَرمك الذي يشبه كَرم حاتم الطائي يا حاتم قريتنا الراحل، عن مواقفك حدثني كثيراً حتى دَمعت،  عن نزاهتك النادرة ، عن رجولتك التي يفتقرها الكثير ، عن ثقافتك الكبيرة وعن اسلوبك في الحوار وفطنتك حين تتحدث مع الآخرين فوالله أن رحيلك صاعقة.

قريتنا حالكة هذا المساء يا قمرنا ، سماؤنا خائفة يا سُهيلنا ، وأفئدتنا ترتعشُ فزعا وهلعا يا علاجنا،  نحنُ ضُعفاء كقشِ يا قوتنا أين أنت يا كبيرنا وشيخنا أنت يا طاهرنا ووريدنا وشرياننا ، مآذننا تصدح بقرآننا ونبضاتنا ترتلُ حروف اسمك يا استاذنا ومُعلمنا ؛ أطفالنا يائسون يا من كنت صديقا لصغارنا قبل كبيرنا وحبيبا لكبيرنا وصغيرنا وقريبنا وبعيدنا ، الزرع يبس من حقولنا وتساقطت جميع ثمراتنا يا غيثنا الغائب ويا غائبنا وراحلنا ، الأتراح اتخذت من قلوبنا موطنا ، عشعشت ونسجت خيوطها في حلقونا وأكبادنا وحتى حتى في عيوننا لماذا غِبت لماذا غِبت هيا إعتلي قمم جبالنا وأصدح بقولك ها أنا هأنذا هُنا هأنذا هُنا ، هيا إنفي أخبار رحيلك المتداولة كي تسمعك آذاننا وتسعدنا وتفرحنا وتبهجنا ومن الوخزات تعالجنا وترمم جميع ثقوبنا يا طبيبنا فوالله أن غيابك راجفة .

رحمات الرب تغشاك يا فقيدنا الراحل ، أنت يا طاهر محمد مسعد شريان ، ولجميع أولادك ومحبيك عزاؤنا . 








Share To: