ككل الذين كانوا بالداخل فوجئ هو الآخر بمجرد أن تجاوز عتبة مبنى البريد بدوي جرس انذار عال ومتقطع الصوت كما لو كان صوتا من الفضاء، البعض سارع إلى زوايا قاعة الاستقبال الكبرى ودس كالنعامة رأسه وتكور فيها، والبعض الآخر أحكم ربط كمامته، مطأطأ ومنطويا على جسده، والبعض لجأ إلى عناق البعض، أما هو فرفع يديه إلى السماء مستسلما لمن لا يدري!

ثم شعر ظلمة قاتمة وقد حلت ظلمة من حوله، لم يعد يرى أو يسمع شيئا، طفق وقتها يصرخ، لا أحمل علي سلاحا، سوى قلم أرزق أسعف به ذاكرة الأشياء في رحلتي اليومية فيما بين مطبخي الصغير والسوق، وأستند عليه في معركة الوقت على مربع الكلمات المتقاطعة بصفحة الجرائد المستهلة التي أحصل عليها بمزبلة الحي.

لم ينتشله لسان أحد من مستنقع الظلمة التي وجد نفسه عالقا به، صمت رهيب طال في مسمعه إلى أن صار صوت انفتاح وانغلاق الأبواب يطقطق شيئا فشيئا من بعيد في سمعه، الخوف يمزقه من الداخل، هل أخطأوا في برمجة جرس الإنذار حتى يدوي لحظة دخوله بتلك الشدة، التكنولوجية لا تخطئ في الشبه، قالوا أن البصمات لم تعد على الابهامات بل على عضات وقضماء الفم أيضا، استرح لبصمة قُضمة الفم تلك، ففكر في أن يطالبهم بتفاحة ليعضها حتى يتبين لهم أن التكنلوجية أيضا تخطئ وليس فقط الانسان، وأنه ليس الشخص الذي برمج دوي الجرس عليه وهو يدخل مركز البريد محملا بقلمه الأزرق، ثم تراجع عن الفكرة، مخافة أن يسخروا منه بالقول:

- هل جئت من بلاد العرب إلى باريس لتأكل تفاحها الأحمر؟

 لكن خوفه الأعظم كان من أن تستقر على قفاه ضربة كف غليظة تؤنبه على طلبه تفاحة وهو الشخص الذي أراد أن يقتل من خلف الشبابيك تلك النسوة الجميلات العاملات بمركز البريد بباريس.

تذكر هاتفه المحمول، تحسسه، سحبه من أحد جيوب سترته التي تفوح بروائح سوق الألبسة المستعملة، لكن بطاريته كانت في آخر قواها استشاط غضبا كونه كان قد رأى طاقتها ليلة أمس تنزل ومع ذلك لم يربطها بالشاحن، كاد أن يضربه عرض الحائط ثم يسحق بكعب حدائه، لكنه لم يجد حائطا في ظلمة مكانه ذلك، ولم يدري على أية أرض يقف كعب حذائه، اعتصر قلبه الغضب، حتى هاتفه المحمول الذي يكد ويجتهد في إطعامه كل يوم برصيد من اليروروهات وقسطا من الكهرباء، تآمر عليه في لحظة الأزمة تلك.

ثم لاحت له فكرة أن يطلب منهم شاحن للهواتف المحمولة كي يريهم ما بذاكرته من صور النساء الشقراوات الغربيات وهن عاريات بالشواطئ الباردة كدليل على حبه للمرأة ورغبته الدائمة فيها وليس لقتلها، بيد أنه عاد وتذكر الكف الذي كان سيستقر على قفاه بسبب طلب التفاحة، فكيف بطلب شاحن للتفرج بالهاتف على صور فرنسيات شقراوات عاريات.

لم تكن بذاكرة الهتف فقط صور الشقراوات الباريسيات عاريات، كدليل على براءته وحبه للنسا، بل صور وجهه يوم كان عاريا ليس عليه اللحية التي اشتعلت ثلاث ارباع مساحتها شيبا، فقط كيف سيقنعهم بأن الصورة بلا لحية عمرها ثلاث شهور فقط أي مذ تم تسريحه كما زملائه من العمل بسبب الفيروس، انتابه الخوف من لحيته التي لا يراها في الظلام ويكاد ينتفها بأصابعه، فزع من فكرة أن يصبح في جزيرة بعرض البحر، مكبلا بالسلاسل ومغلق عليه داخل قفص بشري.

فجأة فتح الباب، سحب إلى مكتب مضيء أوقف أمام لجنة بمآزر بيضاء، أشار أطولهم أوسطهم ذي العينين الزرقاوين، الأنف الأقنى وشفتين الرقيقتين اللتين لم يراهما ولا شكل منخريه بسبب الكمامة، إلى من كان على يمنيه ليقرأ التقرير، ذهل لتفاصيل حياته الدقيقة ثم استدار إلى من حملوه من الغرفة المظلة إلى المضيئة.

- ألهذا السبب فقط دوى جرس الإنذار بمركز البريد حين هممت بسحب منحة البطالة؟

- لا لقد دوى ليخبرنا بأنك من غير محقونين بمضاد الفيروسات، وهؤلاء ممنوعون من دخول المراكز العامة والبنوك وقريبا سيمنعون والتجوال على أرصفة المدينة!

في قاعة المطار أين كان سيرحل سمع عبر مسمات التنفس بالكيس الكبير الذي وضع على رأسه من الشاشة العملاقة بعدما دوت موسيقى الخبر العاجل التي يحفظها من أحداث 11 سبتمبر:

مصالح الأمن تلقي القبض على انتحاري أراد أن يفجر فيروساته بالبريد المركزي، ثم فرغ المطار وركب الطائرة وسط تدافع رهيب، قبل أن يبدأ بالشعور بحرارة ممزوجة بملوحة تعلق بجسده، أراد أن يتذوقها بأصبعه فحال القيد الذي في يديه دون ذلك، نجحت الطائرة في الهبوط بعد أن تم تبريد مدرج المطار بماء البحر..

قام مفزوعا من غفوته الطويلة على صحن طاولة المقهى الشعبي الكبير، وقد بلل العرق المتصبب من لحيته صفحة الكلمات المتقطعة التي أفلح كالعادة في إيجادها، طوى الجريدة بالغة الفرنسية التي يجيد قراءتها قبل أن يرميها بمزبلة المقهى، فخطف انتباهه مرة أخرى العنوان بالبنط العريض:

"قريبا ستدق أجراس منع الدخول إلى المباني الحكومية والمصرفية بباريس على الأجساد غير المحقونة" 

تبسم حين اشتم عطر العدس وهو يدنو من باب بيته بالحي الشعبي العتيق، فتح المظروف بعد أن سحبه من صندوق البريد العالق بحائط العمارة "يؤسفنا ابلاغكم بعدم قبول منحكم تأشيرة دخول الأراضي الفرنسية، بسبب عدم استيفائكم للشروط" تبسم ودعك الرسالة براحة يد البناء الخشنة، أدخل المفتاح في فتحة القفل، أداره ثم دلف إلى البيت فدوى لحظتها آذان الظهر ممزوجا صوت صغاره المرتفع سرورا بعودته للغذاء فصفق بقوة الباب من خلفه!








Share To: