في روايتها الشهيرة، "حجاب طهران" تسوق الروائية الإيرانية برينوش صانعي دهشتها من رقي الحياة وانتظام عمرانها بألمانيا حين قررت زيارة ابنها (سياماك) الذي قامت بتهريبه عبر الحدود الباكستانية إلى هناك، كي لا يتم تجنيده في الحرب العراقية – الإيرانية (1980-1988) وسقطت لحظتها بفعل ما رأت من وعيها فكرة ترسخت بحكم البقاء المستمر في المكان وهي أن أمتها هي مركز الكون، وكل النواحي الأخرى ليست سوى أطراف ومضاف لأمتها.
منطق المركزية الرسوخ والمركوز في الوعي الذاتي، ليس يقف عن حدود المكان طبعا فهو في أساسه تاريخي يتعلق بالقيمة الوجودية للإنسان ومزاعم اسبقية ثقافة ومواقف اسلافه في البناء الحضاري، وبقاء تلك القيم بمحتواها العملي شاهدة على ذلك.
في مقابل سقوط لا مركزية فارس في العالم في وعي الروائية الإيرانية برينوش صانعي، حصل السقوط ذاته في وعي الرحالة الكندية الشهيرة روزي غابريال التي اعتادت التجوال في العالم بالموتو سيكل الكبير الذي تمتلكه، وبه تعبر الصحارى والأوهاد الوعرة، عبر كامل أصقاع المعمورة، إلا أن تغيرت في نظرها ومنظارها الصورة التي ترسخت لديها في المكان المركز (كندا) عن العرب المسلمين وهم يساعدونها لتنهض كم كل كبواتها وتستكمل رحلتها الصعبة والمكلفة دونما أخذ فلس واحد منها بل الأكثر من ذلك أمدوها في بقعة توقفت عندها بكل ما تحتاجه من مؤنة.
في الموقفين معا تسقط من الوعي مركزيتين كاذبتين للعالم وتؤكد بأن هذا العالم يعيش حالة اللا مرجعية وهي من يخلق فرية المركزية هاته، ويراد له أن يتسمر هكذا حتى في ظل شبح تبدد الحدود وانحسار الزمكان المتسارع، وأثرهما على تشكل وعي جديد بالتاريخ بوصفه أساس الوجود الإنساني.
الروائية الإيراني المشبعة بخطاب التنشئة القومي الشوفيني المنغلق، الذي يحبس الانسان الإيراني داخل حدود الزمان والمكان الفارسي عبر التاريخ، اكتشفت أن مفهوم الانسان يتجلى عمليا في شهوده الحضاري من خلال صنيع بيئته على أساس نمائه الفكري والعلمي المتجدد، فانتظام وانسجام الانسان الألماني مع الالة والوقت وثابت ومتحرك الزمكان، وأثر ذلك على البيئة نظافة وجمالا، دفعها إلى إعادة النظر في معنى أن تكون تاريخيا ليس بالمنزع الشوفيني السلفي وإنما بالقدرة على الاستثمار في مسار استمرار تطور العقل الإنساني وانتقاله السلس من مرحلة إلى أخرى.
صانعي شعرت مذ نزلت بمطار برلين أنها نزلت بزمن آخر والمكان قد تلاشت أصواته واندفن ضجيجه في غبار المسافات السحيقة بين طهران وبرلين، فلا أزيز للطائرات الحربية وهي تخترق حدود البلدين قاصفة عاصفة بحياة شعبين مسلمين (ايران والعراق) بسبب خلافات تاريخية لا يزال الوعي بأثقالها يحولا دون أن يحترك الانسان هناك من مكانه وزمنه.
أما روزي غابريال الكندية فقد أعادت اكتشاف الانسان من خلال ما لا تزال تختزنه له البيئة الصحراوية خارج الأنساق الحداثية الصارمة بأرقامها ورقمانيتها، حيث يموت في حدود نهاية الفطرة قانون التراحم والتلاحم الإنساني، وكيف أن المكان الضاج بكل مخلوقات الله من انسان وحيوان، ورغم ما يشوبه من فوضى وقذارة أسواقه وعشوائياته إلا أنه يحتفظ للإنسانية خارج مشروطات وقياسات الأرقام القاتلة، بقيمتها التاريخية افطرية.
أسر كبيرة تجمع مختلف الاعمار من جد الجد أحيانا إلى حفيد الحفيد، ومختلف المستويات الثقافية والتعليمية، ومواقيت وأزمنة أخرى تدق في سماوات هاته المنطق من خلال الاذان الذي يعطي للحركة والفكر بجرسه الخماسي معنى خاص في الزمن الكوني الكلي.
فمسألة اكتشاف الوعي الخاطئ بمركزية الذات الحضارية، خارج أطاريح الفكر والثقافة هو أصدق اكتشاف كونه يتم بلا واسطة (نخب) ووسائط (اعلام)، حيث تدخل التجربة الذاتية المجردة من كل خطابات التنشئة عبر وسائلها ومؤسساتها الكبرى كالتعليم والاعلام التي حولت الانسان في قصة حضارته من صانع لها إلى مصنوع بها.
فالأمكنة لا تزال تحمل في ملامحها الغث والسمين من انتاج العقل الإنساني، سواء أكان هذا الإنتاج مستقرا في قدم الزمن أو مستحدث ومستجد فيه، والسبب هو اللا حوار واللا تواصل حضاري، ما كرس المركزيات الكاذبة للعالم في وعي العامة من الناس، متأثرة بخطاب النخب المستلب منها والمستعمل والمستغفل أيضا، لضرب هذا النموذج الثقافي أو تشكيك في إنسانية ذاك.
Post A Comment: