إن علاقة الشاعر بالمتلقي أشبه بعملية الجذب والتنافر ووصول الشاعر إلى الإبداع يحتاج الكثير من العناء ولكنه أسهل من الحفاظ على الإبداع على الدوام، وليس خافيا أن للحداثة الأثر الكبير في فرض عملية الإنتاج التي يتولد منها الإبداع وبهذا تكون عملية الخلق والابتكار قابلة للتجديد والابتكار ما دامت أدوات الملكة والموهبة تحت اليد وهذا ما تسلح به الحسناوي فقد استطاع توظيف هذه الأدوات بحرفية عالية .
والشاعر المحترف هو من ينزع القيود عن كاهله ولا يضع أمامه نقطة نظام لمحسوبية أو غرض آخر يضعه أمامه لحظة ولادة النص لأن القوانين والأنظمة والتقاليد تقف حاجزا قويا أمام الجمال لذا يتوجب على الشاعر التحليق في فضاءات واسعة ممتدة مع اختزال المجال الصوري بدقة ..
ورد في المجموعة الكاملة للشاعر محمد سعد جبر قرابة ٢٠٠ قصيدة ووقع الديوان في ٣٩٠ صفحة وطبع في لبنان المؤسسة العربية للدراسات والنشر ٢٠٢١ ..
وقد تنوعت الأغراض الشعرية فيه من رثاء ومديح وغزل وقصائد وطنية مع تعدد موسيقاه العروضية واستطاع الشاعر أن يجسد فيه بعض الوقائع والأحداث المهمة التي حدثت في فترة اربعة عقود .
قال في قصيدة خلّبُ الغيم
يا سائل الصحب عن شعري وكم سألوا
ما عيّ شعريَ أو عيّت بي الحيلُ
ولا أقامت عليّ الظل كاذبة
من خُلب الغيم لا غيثٌ ولا بلل 
ولا استنارت بنفسي غير جذوتها 
تلك المطامح تذكيها فتشتعل
فلا المطامح قصوى حيث أطلبها
ولا القصيد عصيا حين أرتجل 
تأتي القصائد طوعا حين أنشدها 
مهما تعزُّ وتستعصي بها السبل
تجسيد رائع للشعر وكيف يترجله من دون تكلف أو وقوف أو حيرة وهو اعتداد بالنفس ودلالة على تمكنه من الشعر وفنونه وعلومه واشارة للتعريف بالشعر الصادق ..
قال في قصيدة خالص الرشف
طهر يديك وخذ من تربة النجف 
بالشهد حينا وحينا خالص الرشف
فهي العطاء إذا ما جئت تسألها
وبلسم الداء مهما جد بالتلف 
وهي السكينة للقلب الذي عظمت
فيه الهموم وناجاها على شغف
فكم عديد الحصى من جاءها تعبا
وكم عليل أتاها زائرا وشفي 
وكم نبي تمناها له سكنا
ونال ما لم ينل قرمٌ من الزلف 
لقد تأثر الشاعر ببيئته تأثيرا كبيرا واضحا ظهر في شعره فهو ابن النجف دار العلم والفكر والمعرفة ومدينة العلماء وقد وردت العديد من القصائد في مدح النبي وآله والثناء على أهل العلم في النجف الأشرف وهذا أمر طبيعي أن يتأثر الشاعر بما يدور حوله وذلك ولّد عند الشاعر قوة الرثاء حتى وجدنا براعته في الرثاء كانت لها السيادة في ديوانه ..
ومن خلال تمعننا في ديوانه وجدنا عملية التوظيف بشكل يدل على الحرفية فتوظيف الأفعال كان متماسكا مع الدلالات ومطابقا للمعاني وعملية السبك والبناء متينة قد خلت من التعقيدات ناهيك عن تطابق الألفاظ مع المعاني والحفاظ على الوحدة الموضوعية في جميع القصائد التي وردت في الديوان وهذه دلالات على تمكنه من فنون الشعر لأنه لم يترك مجالا من مجالات الشعر إلا وخاض فيه بأسلوب رصين مصدره البريق الشعري المتوهج .
إن اتصال الشاعر بالعالم الذي يدور حوله وتجسيده لمعاناة الآخرين أمر مهم جدا وللغاية لأن ذلك يحفز على عملية التلقي وهنا يجب الوقوف بدقة على أمزجة الشعراء لأن القصيدة نكهة حضارية يجب أن تصل إلى وجدان المتلقي وبهذا تكون عملية الإغراء حلقة الوصل بين الشاعر والمتلقي...
وبذات الوقت نحن لا ندعو إلى خرق الأنظمة والتقاليد المجتمعية المهمة من خلال نظرية الفن للفن ولكننا ندعو إلى عملية التأثير بشكل مستمر في القصيدة وهنا تكمن براعة الشاعر في التمييز بين العقل والعاطفة بل المزح بينهما قدر المستطاع لأن نظرية الأدب للمجتمع تخضع للعقل والأسس والقواعد ونظرية الفن تأتينا بالخلق والإبداع لأن مصدرها الأساسي هو الخيال والمزج بينهما أمر مهم جدا وللغاية وقد لمسنا ذلك عند الحسناوي فهو في حين كان متمردا وفي حين أخر متجنبا ذلك وقد يكون للفترات الزمنية الأثر الكبير في ذلك فالشعر يختلف باختلاف سنوات العمر .
قال في قصيدة يا أم أحمد
يا أم أحمد ما أشكوك عن وطني 
وأنت أدرى بما يلقاه من محن
وأنت أدرى بكل النازلات به
من تالد الدهر أو من طارف الزمن
إنا ألفناه محزونا يجرعنا 
كأس الملامة في كأس من الشجن
فكم خذلناه أعواما يطاوعنا 
على المرارة والأذلال والوغن 
حتى لظن بنا الأعداء ظنهم
بأن غفونا على ما فيه من وهن

صور شعرية رائعة عبر عنها بصيغة النداء واختزل ما يدور في الوطن وهنا تكمن قوة النسج وبراعة الاختزال الشعري فهناك من يكتب العشرات من الأبيات ولا يستطيع أن يصل إلى ما يريده .
بما أن الشعر عملية وجدانية لا سبيل من التخلص منها فإذا لم نشعر بذلك فهو نظم وليس شعرا وهناك فرق بين الشاعر والناظم والحسناوي كتلة من المشاعر الجياشة وقد ظهر جليا في شعره كما ورد في غفوة الشعر بعد انقطاعه عن الشعر لمدة طويلة فقال 
سكن الشعر وفي غور عميقْ
كلما ناديت هيا لا يفيقْ
ايها النائم بي بعض أسىً
وعذاباتٍ فقم أنت الصديقْ 
كلما حاولت أشكو حزنها 
عافني الناس وضيعت الطريقْ 
كيف لي بالناس أن تسمعني
وهم كلٌ تجافى عن رفيقْ 
إن لعلوم البلاغة والبيان والبديع الأثر الكبير في عملية الشعر ففنون الاستعارة والمجاز والطباق والجناس والتورية والكناية والتشبيه وتقديم ما حقه التأخير وجملة الانشاء والطلب وما شابه ذلك من فنون اللغة المهمة التي تدعو للتأمل والإنزياح الشعري ، وقد وجدنا ذلك في شعر الحسناوي مما أضاف نكهة خاصة لشعره لأن ذلك يحقق الانفتاح الشعري ويجعله متحررا من فضاء الزمان والمكان ذلك لأن المعاني ستدخل ضمن دائرة التأويل لأن الموروث اللغوي العربي قادر على عملية الابتكار وبهذا يظهر الإبداع جليا أمام مرآى المتلقي ، وقد وجدت ذلك متجسدا في شعر الحسناوي ولكن ذلك لا يعني أنه تجرد عن لغة السهل الممتنع الدالة على البساطة لأن هناك من يؤمن بأن البساطة أساس الجمال والإبداع .
امتلك الشاعر نفسا شعريا طويلا أظهره في بعض القصائد الطوال وبذات الوقت مال للإيجاز في قصائد أخرى ولم تخلُ القصائد من الضربات الشعرية الحادة وقد أبتعد عن الجفاف والتراكيب وتلك سليقة سليمة تحسب له فهو من الشعراء المؤمنين بالشعر وممن يملكون الكثير من علوم اللغة وهذا ساعده كثيرا في خلق الجمال والإبداع...
أظهر في عدة قصائد ولاءه الوطني والعروبي وحث على الوحدة كما ظهرت عاطفته الحادة من خلال قصائد الرثاء لمن كانوا حوله من بنت وأخ وأهل علمٍ ومعرفةٍ وومن رحلوا وخلفوا جرحا بليغيا في داخله فما كان منه إلا وجسده شعرا .. وقد غلب على شعره تكثيف الصور الشعرية وتوظيفها بطرق بلاغية وتلك ميزة امتاز بها ، ونحن نجزم بأنه وضع قلبه وعصارة نزيفه لعقود مضت بهذا الديوان لذا ندعو الباحثين والمهتمين بفنون الشعر للإبحار في رحلة الحسناوي وأبارك له منجزه وإلى مزيد من التألق .






Share To: