من أبرز تجليات فشل الدولة القطرية العربية في المشروع الوطني بعد المشروعية السياسية، كان الفن باعتباره الوجه الكاشف لقيمة المخزون الثقافي ومدى رسوخ الذات في منطلقها التراثي للتعبير عن نفسها في مسرح التدافع التاريخي، وهزائم الدول والحكومات لا تبدأ كما يسوق له في الخطاب العالمثالثي بخواء مخازن الخبز والأسلحة، بل من خواء مخزون الفن والثقافة باعتبارهما أساس مشروع القضية الوطنية خارج كل إرادة تسييج الفن وأدلجته أو تمييع لمفهوم الوطنية واختزاله في الانتماء للأرض الصماء.

يتوجب التأكيد هنا أنه عندما نتحدث عن الفن فإننا نتحدث عن وعي الانسان عبر حاسة الذائقة الرمزية المشتركة، فالأمر بالتالي لا يتعلق بمترف من توافه الأشياء والقضايا كما قد يتبادر لأذهان بعض الغافلين عن أسس قيام الكيانان ومسار ممارسة الكينونة خارج نطاق البيولوجية ومحدداتها الطبيعية المادية.

والأمم التي استهوت ثم احترفت المعرفة واستوعت مآثرها وآثارها، أولت الفن وبكل صنوفه وأشكال تعبيراته الأهمية القصوى لتسويق العبقرية الخاصة في مجال الرمزي للإنسان، وبالمقابل الاستثمار بكل أبعاده في المقدرة التعبيرية الفنية.

وبذلك يُرى الفن قد تجاوز حدود الاستهواء والاستهلاك الروحي الذاتي واندرج في مسارات التنمية بمشمول لفظها الدلالي، ولا أدل على ذلك من مقدرة الأمم المتبناة للفن كأداة استثمار وليس فقط استزمار (المزمار) هو هاته الأسواق الثقافية الكبرى التي تأسست على مدار قرن ونيف من الزمن مكنت الفنان من ان يستقل بذاته ماديا وسياسيا ما أتاح له هامشا  كبيرا من الحرية في التعبير عن خياله فنيا.

في حين ظل مصير الفن والفنان في عالمنا العربي رهين إرادة غيره على المستويين الاجتماعي والسياسي، فهو أن تحرر ماديا، فأبدا لن يكون مسموحا له أن يتحرر سياسيا، وقد ابرزت ذلك أحداث الربيع العربي، حين زج بالفنانين الذين يتقاضون الملايين في الصفوف الأولى للثورات المضادة، بحجة أو بأخرى، وساهموا في إفشال إرادة الشعوب العربية في استعادة سيادتها على مقدراتها، بل وأعادوها إلى ما هو أسوأ من مربع البؤس واليأس الأول.

وهنا تحديدا عاد ليتجلي مفهوم الالتزام أو الفن "القضية"، باعتبار أن للفن جوهر يعطي معنى للشكل، إذ لم تجد الشعوب الثائرة في ربيعها العربي من يعبر عن لحظتها التاريخية الفارقة من غير العودة بالذاكرة الطبيعية والاليكترونية إلى الجيل الأول والثاني من الدولة القطرية الوطنية ليسمع ويستمتع من خلال أغانيه وأفلامه مفهوم القضية الوطنية التي أساء التعبير عنها مشروع الدولة المستقلة المتهالك المتحالك، كأغاني الشيخ إمام، في مصر والفرق الغيوانية الكبرى والشهيرة في المغرب التي غنت جوع وفزع الناس سنوات الرصاص.

هذا الافتقار والافتقاد للتعبير عن القضية الوطنية من خلال نافذة الفن الواسعة، تؤكد بأنه ليست الذائقة الفنية العربية وحدها من تم استهدافها بالإفساد وافلاس، عبر اغراق أسواق الأصوات الغنائية بما عُرف بالأغنية الشبابية، وإنما تم إفساد مشروع يقظة وطنية كان جرس الفن من أبرز ما يستحثها بنغم دقه ودويه.

المشكل الجوهري في موضوع الوعي بقضية الفن وعلاقته بفن القضية، هو أنه تم المس بالشبكة المفاهيمية لمنظومة المعاني واعتبر أي صوت شاذ عما تم تمييعه من رؤى وبرامج، أيديولوجيا أو يا للحرية، ينمتمي إلى الأزمنة الغابرة من الفن المؤدلج الدوغمائي، وبذلك تكرست الرداءة كأساس قيمي للسوق وطغى النفعي على النوعي وحجب الوطن وقضاياه المجتمعية الكبرى عن الذائقة الفنية أمام ذلك الحضور الماجن لجسد الحبيبة الشقراء في العراء التام، عراء المعنى وعراء التاريخ، كل ذلك باسم الحرية التي لا تمد قدميها إلى عتبات قصور السياسة والسيادة والحكم.

والسؤال الأخير الجدير بأن يطرح هنا، هل حقا سبب سقوط فن القضية في العالم العربي، هو تحقق الحرية؟ 

كل من سيسعى للتصدي لهذا السؤال سيجد نفسه بإزاء جبل من المفاراقات المفاهيمية، حول القضية كفن، والحرية التي ظلت ذاتها لسنوات على رأس تفاصيل فن القضية، قبل أ تختزل في حرية السوق غير العادلة وتعتزل في السياسة ومسألة الحكم وسيادة الشعوب في اختيار قادتها.

 








Share To: