التصدير: " مَنْ يكتُب حكايتَه يرِث أرضَ الكلام ويمتلك المعنى تماما " محمود درويش.

الإهداء: إلى روح ذلك القِطّ النّبيل...مَعذِرةٌ جِدّا...و الله أبرياء جدّا....و الله فقراء جِدّا.

كان يا مكان في قادِم الأزمان خمسةٌ سادسهم قِطّ...لي في شأنهم تَصنيفات شَتّى :إن شئتُم أربعة أعراب و واحد أمازيغيّ العرْقِ عربيُّ الرّوحِ و إن شئتم عُروبيّان و واحد إسلاميُّ الهوى ناهِضُ الأفكارِ و الأحلامِ و اِثنانِ لم أعثُرْ لهما على اُنتماء أو رأي سياسيّ بلْ كان همَّهُما أن يُنهيا تعليمهما الجامعيّ لِيتَوظّفا و يُطعِما أفواها في يوم ذي مَسْغَبة ..و إِن شِئتُم ثلاثة طلبة للحُقوق أو العُقوق و طالبُ تضاريسَ 
و تواريخَ و طالبُ أدَبٍ و عِنَبٍ و شَغَبٍ و حُبٍّ .
أمّا القطّ فلم يكن لا عربيّا و لا أمازيغيّا و لا عُروبيّا و لا إسلاميّا و لا طالِبا...بل كانَ قِطّا و فقط.

الأوّلُ أكبرُنا سنّا و أرْجحُنا عقلا و أكثرُنا صَبرا. اُنتخبناه زعيما في إجْماع حقيقيّ لم يَتوفَّرْ حتّى في سَقيفَة بني ساعِدة...
أعطى الله زعيمنا بَسْطَة في الجسم و هدوءا في الفكر و بعدا في النّظر و ميْلا إلى الدُعابة و المرح أحيانا...كانَ فَقْرُهُ فَقيرا..
فاُضطرَّ للبحث عن أعمال عَرَضيَّة في صيف "مدنين" القاتل ليجمَعَ بعضَ المالِ ...فإنْ لمْ يستطِعْ ...كان يستدينُ خِفيَةً عن عائلته لِيتمَّ دراسته...أصبح ذات يوم خازنا في بيت مال المسلمين ثمّ عَدَلَ فصارَ عَدْلَ تنفيذ في إحدى مدن السّاحل
 و بَنى أكثر من بيت و لان مطعمُه و رَقَّ مَلْبَسُه ...أغدقَ الله عليه فشَكر و اُبتلاه فصَبِر...و كان في الحالين كريمَ المَعشَر ذَرِب اللّسان.

أمّا الثاني فكان من عائلة متوسّطة تَربّى على حبّ المال في الرَّضاعِ حُبّا جَمّا فأتقَنَ جيّدا تخزينه و اُدّخارَ قِرشِه الأبيض ليومه الأسمَرِ ...كان غَزيرَ الشّعر كثيف الحاجبين فأطلقنا عليه اُسم "الأسد".دار الزَّمانُ فصار حقّا نصيرا ل"الأسد"...كان كثيرَ الغياب عن الدّرس لكثرة النّوم و بلَغَ به التّهاون أن تغيَّبَ عن الاُمتحان و حين لم ينجحْ طبعا اُدّعى زورا و بهتانا أنّني كنتُ فألا سيّئا في طريقه و توسَّلَ ألّا أُشيعَ الأمرَ حتّى لا يبلُغَ مسامِعَ أبيه صعْبِ المِراس.
كانَ هذا الأسدُ عاشقا للطّعام يبرَعُ فيه طبخا و يُجيدُه أكلا 
و كانتْ لنا في حديقة البيت مِشمشة وارفة حُلوةُ الثّمار كأنّها من بنات الجنان...قطفنا غلَّتَها لكن بقِيت حبّات عاليات شاهقات شامخات لا نستطيعُ إليها وصولا...اِنتبهتُ صدفة إلى وجود قُلوبِ حبّاتِ المشمش في المطبخ..سألته فأنكرَ
 و اُستحلفته فحَلَفَ حانثا .لكنّي راقبتُه سِرّا فوجدتُه يَسْري عند الفجر في سرواله القصير المُتَعثكِل الذي قُدَّ من بقيّة "جينز" من العهد القديم...يسري عارِيَ الظّهر مثل تمساح كَثّ اللبَّة مثل أسد فيقبض على جِذع المشمشة فَيَرُجُّها رَجًّا فتسَّاقطُ الحبّاتُ رطبة جَنِيَّة ...فعلتُ مثله خِفية فتسّاقطتْ الحبّاتُ شهيًة طَريّة و أكلتُ و داريتُ عنه و عن الرّفاق قاذِفا قلوبَ المشمش وراء السّور حتّى لا يتفطّنَ أحدُ "الأوباش"إلى هذا الكنز الغذائيّ الاُستراتيجيّ الذي يُمكن أن يُوفّرَ نفقة فطور الصّباح في حالات الإفلاس التامّ أو جدولة الدّيون أو ما جاورها.

أمّا الثالثُ فكان أرنبا. لا لأنّه يحبُّ الجزرَ و إنّما لوداعة مرِحة في مُحيّاه و لبُروز طفيف في ثَنِيَّتَيْه يزيدُهُ بهاء كلّما زِدتَهُ نظرا ...وقَعَ في حُبّيْن:حُبَّ الله و حبّ أمَة من إمائه فكانت تصِلُهُ رسائل شبه أسبوعيّة يجدها في دكّان العمّ يوسف رحمه الله.فنَحتجُّ اُحتجاجا طريفا مُمَسْرَحا لا يعلَمُ سِرّه إلّا الرّاسخون في العلم.فبأيّ حقّ يجعلُ الهوى مقصورا عليه؟؟

أمّا الرّابع فكان سنجابا لتقليده طريقة تزاواج السناجب  في مشهد كوميديّ لم أرَ أبدعَ منه و لآدمانه المُكسّرات سِرّا
 و جهراو لكسله أحيانا عن قضاء حاجات بسيطة و لولعه المُفرَط بالطّعام طيّبه و رديئه.فطيلة سنوات عجاف أو سِمان -أقسم لكم- لم يُبقِ في آنية الطّعام شيئا يستحقُّ الذّكرَ أو الأكل سوى مرّة واحدة تركَ فيها بُرجا من القرَع الأحمر و ربّما كان نَيْئا...كان يحِبُّ الطّعام حبَّ الملائكة للخير وله فيه صولات و جولات و طقوس شتّى...عندما يرى قصعة الكسكسي يذهَلُ عمّا حوله و لا يُبصِرُ شيئا سوى الطّعام 
و يذهلُ عن الكلام و يصمتُ صمْتَ العابدين الزّاهدين و ماهو بعابد و لا زاهد...لا ترى سوى يَمينه في ذهاب و إيّاب بين فمِه و الإناء...حتّى كأنّ المولى تعالى خلقَ الطّعامَ فقط لأجله و لم 
يحدثْ أبدا  أبدا أن كان أوّلَ المُنسحبين من وجبة العشاء.بل كان دوما آخرهم بعد أن يمسَحَ قَعْرَ الإناء و حافّاته بسبّابته اليُمنى.

أمّا خامسُهم فكان عابثا مُحبّا للحياة يبحثُ عن ذاته بين الأسطر و الكلمات...كان يحبّ الماء و الحياة و لكنّه قبل ذلك يحبُّ أيضا خالقَ الماء و صانعَ الحياة.

أمّا القطّ فلم يكن يساريّا و لا يمينيّا و لا تقدّميّا و لا رجعيّا..
بل كان قطّا....و....فقط...و أمرُه غريب و حكايتُه أغرب..كان 
قطّا حقيقيّا من فصيلة نادرة اُعتادت "خوانم"(1) الجالية التونسيّة بتونس شراءها و تزيين الصالونات بها و التباهي
بجمالها و ثمنها أمام صُويْحِباتِهنّ ...لكنّ أهل القطّ لأمرٍ لا أعلمه رحلوا أو اُنقرضوا أو ضَلَّ هو الطريق إليهم فلجأ من جَوْرِ الزّمان إلى طلبة فقراء آوُوهُ مِن شارِع و أطعموه من 
سَغَبٍ و دَثَّروه من بَرْدٍ.لكنّه تأثّرَ بعادات البورجوازيّين فاُعتادَ 
طعامَ القُصور و أَنِفَ طعامَ الدُّورِ ...كان لا يأكُل لحما...هل سمعتم عن قطّ يأنَف اللّحم ؟؟ كان طعامه فقط مثلَّثات الجُبن و رُقاقات "الصلامي"...نشتريها له إذا سمحت جيوبنا الخاوية خاصّة أيّام الاُمتحانات بحثا عن برَكة و سنَدٍ إلهيّين 
لكن لم نستطع أن نداومَ على الإنفاق عليه و نحن لا نكادُ نسُدُّ نَفقَةَ بطوننا...فنَسَلَ شعرُهُ و فتَرَتْ هِمَّتُه و خارتْ قُوَّتُه و...
و....ما.....و....مااااتْ.......أيّها القطّ الحبيب جدّا..معذرة جدّا 
فقد كنّا فقراءَ جدّا.أيّها الحبيب نحنُ أبرياء مِن دمِك براءة الذّئب من دمِ يوسفَ و إنّما دمُك في رِقابِ أولي الأمرِ منهم..
أيّها القطّ تسامتْ روحُك في السّماء و تقدّستْ في الملكوتْ
..ها نحن مثلك يا حبيبي بعد ربع قرن نبحثُ عن القوت فلا نشبَع و لا نموت.لكنّنا لن نيأسَ و لن نقولَ "فاتَ الفُوت ".

كنّا خمسة نشترِكُ في كلّ شيء: فنجان القهوة و سجائر "المارس" أوّل الشّهر و سجائر "الكريستال" آخره..نشترك في عُلَبِ ماء الحياة إذا اُستطاعتْ إلينا سبيلا..نشتركُ في ملابس "الجينز" و حتّى الأحلام...و طبعا في إيجار منزل قَدرُهُ ستّون دولارا أمريكيّا ..منزِل لم نملِكهُ يوما لكنّه كان لنا و سيَظَلُّ لنا لأنّ من يملِك المعنى و المغنى يملك المبنى و لأنّ الرّوح تترُك روحَها و ترحَلُ إليه كلّ فجر تجوسُ الدّيار و تنفُضُ عن جدرانه البيضاء الدّنَسَ و الغيابَ و الغُبار.
منزل كان حكمُه شعبيّا في زمن تئِنُّ فيه الشّعوب في الأخاديد...منزل كان دستوره ديمقراطيّا حقيقيّا في زمن ناهزت اُنتخاباته على التاسعة و التسعين من الكذِب و من الخُطب الفارغة المُعلَّبة في العُلب..آآآه يا دينَ الحُبّ!! منزل شهِدَ الأمميّة الأولى و الثانية و آوى كلّ أصناف البشر من مهاجرين و أنصار و حتّى مُرجئة ...آوى أهل الله و أهل الدّنيا و أهل الآه...آآآه...لجأَ إليه المُفقَّرون من كلّ حَدْب فأطعمهم مِن سَغَب و وقاهم مِن جَدْب...آه يا دينَ الحبّ!!!

كانوا خمسة ...الآن طوّحتْ بهم الدّنيا و وزّعتهم على جهاتها الأربعة حتّى يكونَ الحبّ مُفاضا على كلّ الأرض بالقسطاس المُستقيم فصاروا أوتادا في زمَن لا أوتادَ له.(2)
كانوا خمسةً سادسُهم قطّ و في رواية ضعيفة وجدها طالبُ التّضاريس و التّواريخ على هامش مخطوط مهجور..لم يكونوا خمسة سادسهم قطّ...بل كانوا ستّة قِطط..و..و..فقط!!



الهوامش:
1الخوانم: كلمة تركيّة الأصل تعني "سيّدات المجتمع
2تُحمل عبارة "الأوتاد" هنا على المعنى الصوفيّ






Share To: