ازدحام تتخلله أصوات الكلاكسات، ووقع أقدام لا تكفُّ عن اغتيال الهدوء، وكعادة الظهيرة، سيارات تسير ببطءٍ في صفوف طويلة، تشعر بأنها لا تتحرك من كثرة وقوفها المتكرر، وسيرفيسات تكدست بالرُّكّاب كعلبة سردين، وتبّاعون يطلون بمؤخراتهم من نوافذ أبوابها. 
لا شيء يشبه خطواتي المتجمدة، وجسدي الذي يبدو كأفعى تتلوى كي لا يصطدم بالمارّة من حوله، كانت عيناي تلمحانها بمشيتها البطيئة، وعباءتها السوداء التي غلفتها من الخلف طبقة أتربة خلَّفها الجلوس على الرصيف، يسكن داخلها جسد ممشوق يفصح عن أنوثة صارخة، جارت عليه الأيام ورغم ذلك لازال جوهره يحتفظ بريعانه، وبأصابع مرتعشة، مدَّت يدها داخل حقيبة بلاستيكية لتخرج عبوات المناديل، تمدها للمارّة والجالسين على رصيف مستشفى الطوارئ، والذين يبدون أكثر بؤسًا منها.
عينان محملتان بالنوم والتعب، اختلطت نظراتهما بسراب يعانق الأسفلت، وانهمرت قطرات العرق كأنهار فوق جبهتها، اتخذت من عينيها مصبًّا، اعتادت على الوقوف أمام كل من يقابلها، تمد يدها بعلبة مناديل، فيكتفون بإيماءة تعني أن تتخطاهم وتذهب إلى آخرين، ونادرًا ما يتفوّه لها أحد بكلمة - على الله – مثلاً.
كأنها من زمان غير الزمان، برغم أن أمثالها كثيرون، تكتظ بهم الشوارع، أصبحت جبهتها الخمرية مرآة تعكس أشعة الشمس الحارقة، تلمع من بعيد كأنها زجاج مصقول، بدت وكأنها تشبه الأسفلت الذي طالما شقق أقدامها، لم يمنع حذاؤها المهترئ قدميها من الاصطدام به مع كل خطوة تلو الأخرى. 
دوَّى في الشارع صوت سيارة إسعاف تنبه بقدوم إحدى الحالات الحرجة التي تأتي هاهنا دومًا، انشقَّ لها الشارع كما لو كان سائقها يحمل في يده عصا موسى، يضرب بها الزحام فينفلق، تتخذ السيارات مسارها على جانبي الطريق، وتتلاحم أكتاف المارّة ببعضها، تهرول فينفلت حذاؤها المهترئ من قدميها، ما إن تحني قامتها لتمسك به وتعيده إلى قدميها حتى تفصح العباءة عن ما تبقى من أنوثتها الصارخة، تقع فريسة لنظرات الأعين التي حدَّقت فيها بشدة، قامت من انحناءتها فاتسعت العباءة مرة أخرى، لكنها لم تفلح في إخفاء أنوثتها الصارخة بعد.
في زاوية أخرى من الشارع، قريبة من الصخب، لكنها تتسم بقليل من الهدوء، أوقف أحد الغرباء واحدًا من المارّة يسأله عن اسم الشارع، أجابه وهو يسخر من جهله باسم شارع كهذا:
- يا سيدي، أنت في شارع جيهان.







Share To: