تمثل القراءة الفعل الكامن في وعي التواصل الثّقافي من حيث أنّ التغيير مُكنة العقل القادم من ضفاف المعرفة، ولهذا لا يمكن أن تبني فكرتنا اكتمالها إلا بعبورها عبر مرآة الآخر، فتنشأ المطارحة الثقافية كبنية لتجسير العلاقات نحو الاكتمال المجازي لهندسة الزّمن المؤثثة بفعل التّاريخ والتّجمهر الحضاري على قارعات النص، وفي هذا الإطار فتح مقال الأستاذ بشير عمري "نسوة في المدينة.. نسوة في الرّواية" أفقا في مخيال العلاقة بين المرأة والسّرد وبين الواقع وتمثلات المرأة فيه.

لا يمكن أن نستثني التّاريخانية السّردية في حضور المرأة عبر النص التراثي، وتشكلات الوعي بالإنقاذية الأنثوية العالقة بين شهرزادية دفاعية وشهريارية هجومية، حيث أسّس العنف الشّهرياري لمنجز التّداعيات اللاواعية باحتكار الرّؤية للمرأة، على أساس أنّ الوعي أنثويا بالمخيال النّسوي لا تشكل أنسجته الصّدوية (من الصدى) سوى الذّكورة، لكن تمكّن الشّهرزادية من اقتحام فضاء النص ورسم المسار الحضاري الأنثوي في مجال الحكاية أنقذ "المرأة" باعتبارها رمز "للضّعفوية" (من الضّعف) الوجودية وكرّس ثقلها التّخييلي كمعول للحفر في العقل الذكوري، هذا من جهة، ومن جهة أخرى دعّم جهازها الدّفاعي باللغة، التي على أساسها انتسج الوعي الأنثوي بالجمالية الاستثنائية للمرأة، ومن هنا يمكن فهم الفصل بين النص الأنثوي والنص الذّكوري في الوعي الناقص للكينونة الإنسانية، إذ الإبداع والمعرفة مجموع لا يتجزّأ إلى فضاءين للتّعبير عن الهمّ الوجودي القائم سؤاله في "الحضور والغياب"، حضور الوعي الإنساني بالوضع الوجودي له، وغياب الوعي في مساحات التّفكير والتّعبير.

لعلّ القضية الاستثنائية الحاسمة في وجود المسعى الأنثوي كعلاقة بين الحضور والتأثير من خلاله، هو ما جعل "الفيمينزم" عبر الأصوات النّسائية الفاعلة في الحراك الأنثوي الثّقافي الغربي، ممثّلا في فرانسواز ساغان وسيمون دو بوفوار، وتحقّقات الأنثوية الجسدانية في بروز مارلين مونرو، بريجيت باردو وأنجلينا جولي وغيرهنّ..   يرتبط بالحضور الجسدي في الواقع المجتمعي كفعالية للتّعبير عن إحداث الأثر في العلاقات البينية بين الذّكورة والأنوثة، ولهذا كان الانفجار الاجتماعي الشّبابي في 1968، والذي كان من أهمّ شعاراته "يمنع المنع"، أي لا حدود للحرّية، حيث تشكل الجسد كثورة على السّائد السّاجن له (الجسد) في ثوبانيته (الثياب) وفي انغلاقه على المحتشم، ولهذا تمّ التّركيز على التحرّر المطلق من كل عائق يمنع الجسد باعتباره النّسق الجاد لترجمة الوعي بالتحرّر المباشر وفق معايير الشّهوانية المطلقة، وهو ما يحيل إلى النص باعتباره أحد المفاصل الحسّاسة والسّياقية في فهم علاقة المجتمع بالمرأة كنص، كرواية تُحكى، فجلّ قضيّتها تنحصر في الوعي الذّكوري الغربي بالتحرّر كميكانيزم للتّعبير عن التأثير في الواقع واكتشاف الذّات. 

لم تكن علاقة سيمون دو بوفوار بسارتر سوى إحالة إلى هامش السّتار الذي يتعلّق به الظلّ ولا يكشف سوى عن الخيال، إذ تأسّس وعي دو بوفوار كتابع للوعي السّارتري في مجده المعرفي ذي الفتوحات الوجودية، وبالتّالي، كان لابد للأنثى أن تتحصّن ضد الذّوبان، فكان مسعى "الفيمينزم" التحرّري المطلق والجذري يمثل الخلاص الدّنيوي من مأزمة المضيق الوجودي في علاقاته بالسّارترية المهيمنة.

تمتحن العلاقات التي تتأسّس في ظلال الأنثوية جدواها الحضارية والتّاريخية كفعل إنساني لإثبات هوية ما، من خلال الحضور الواعي في الواقع والعلاقات التي تؤطّره، ومنها الزّواج باعتباره الرّابطة المثلى التي تجمع التّناقض البيولوجي تحت سقف العمق الرّوحي والوجداني للزّوجية، حيث التّناقض البيولوجي لا يُتصوّر سوى في الجسدانية، لكن العلاقة باعتبارها كينونة حاضرة في المجتمع تاريخيا وحضاريا، فهي تجمع الفرع الجسدي إلى جذره الرّوحي، إذ الزّواج هو لقاء روحين، أمّا اللقاء الجسدي فما هو سوى التّعبير المحسوس عن العمق الرّوحي للزّوجية، فمسارات البحث في الأنثوية أو النّسوية الفارغة من الحمولات الثّقافية والحضارية لا تشكل في أبعادها الفلسفية سوى حضورات الجسد كشهوة.

وضمن جدل حضور الجسد واعتبارات الأنثى كفاعل، تأسّست الرّؤية للإبداع كفعالية نصّية ناقلة للوعي الإنساني في شقّيه الذّكوري والأنثوي، وكانت الرّواية المهرجان الحافل بالجسد وبالتماعات النّضال الأنثوي من أجل إزاحة الذّكورة على أساس أنثوية الرّواية، وبالتّالي، تلتقي الأنثيان في معلق اللغة، وتتناوب الأطروحات الحكائية لينجرّ التاريخ بثقله الاختلافي إلى حلقة الوعي بالمسار التحرّري لجسد لم يكن في حسبانه قيود المأزق التحييدي لِلَطافة "الجنس الآخر". 

تمثل الرّواية شكل الفضفضة التي تعيشها الأنثى بعيدا عن هامش المواجهة الفعلي مع الذّكورة، فتنجز عالمها التي تهيمن فيه بكامل وضعيتها الواعية بالفاعلية، وتخرج الشّخصية متلبّسة أسدال الأنثى التي تعرف كل شيء، أو تلك التي لا تعرف سوى أنّ عليها أن تكون رقما في شوارع العالم، بما يعنيه الشّارع من علاقة مع الواقع ومع الذّات في إطار وظيفي، وهنا تتشكل الثّنائية الغيرية بما يتعرّض له الجسد من تركيز في وعي الذّكر ومن محاولة تبئيره في الواقع، فيتحوّل الجسد من كينونة للحركة نحو الذّات توعويا إلى حركة نحو الكينونة المتحرّرة من الذات أخلاقيا واجتماعيا، ويتشكل عبر ذاك الأفق المعياري الأخلاقي الذي تنتظم به الحياة المجتمعية بكل أنماط الوعي السّلبية والإيجابية، وينبثق الصّراع المجتمعي ضمن بؤرة الآخرية التي تفصل جنسويا الكائن الإنساني بين مركز (ذكر) وهامش (أنثى)، وهذه الحركة تتحكّم في جميع المجتمعات باعتبار أنّ الأنثى غيرية مختلفة تقع في المستوى التّالي للذكورة، وهو ما يكشف عنه التمركز الأوربي في خلق الثّنائيات التي تجعل من الموضوع الأول مهيمنا على الموضوع الثاني في سلم التّهجئة داخل وعي السّرد للأسماء والأوصاف والموضوعات. 

       








Share To: