إقتربت الشمس من مغيب يوم عاشوراء. ولالَّة مسعودة تحيض وتبيض، وهي تقوم بحركات مد وجزر غريبة وسط فناء بيتها. تضرب أخماسها في أسداسها، وتنفش شعرها، وترفع بصرها إلى السماء منتظرة نزول الفرج، ثم تخفضه إلى الأرض باحثة عن حل للخروج من المأزق الذي تريد أن لا يتكرر، فباتت قاب قوسين أو أدنا من فقدان عقلها وكأن مصابها جلل.

في الحقيقة كاد الأمر أن يصبح كذلك، فابنها الوحيد، والذي لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، لم يعد بعد إلى المنزل، فلأول مرة تمنحه هذه الأم حرية الخروج واللعب مع الأقران من أبناء الحي.

ضاق صدرها من الانتظار ونفذ صبرها. فارتدت حجابها ثم خرجت دون أن تحدد وجهتها. فسارت من درب إلى درب، تسأل كل من تصادفه من أهل الحي لكن دون جدوى إلى أن بلغت الساحة الكبرى، الموضع الذي يحج له الأطفال من كل حي عميق، ويتجمعون لممارسة أنواع كثيرة من الألعاب الجماعية ك"دينيفري"و"الغميضا"و"حَبا"و"الشرطي واللص" حتى الفتيات يزين الساحة بأهازيج وزغردات لا تتعدى حناجرهن الصغيرة وهي تختلط بايقاعات الطعاريج والنواقيس والدفوف، مشكلات حلقات صغيرة وهن يرددن مقطوعات غنائية خاصة بمناسبة عاشوراء "هَذا عاشورْ مَعْلينا لَحْكام اَلاَلاَ…عيد لْميلودْ تَيْحَكْمو رْجالْ اَلاَلاَ".

وقفت لالة مسعودة وقفة تابثة لاتتزعزع، وكأنها عمود إنارة، وعيناها مثل مصابيح ترسل أضواءها في كل مناحي الساحة لتمسح كل الوجوه لعلها ترمق وجه إبنها المفقود. مسكينة هذه المرأة، خارت قواها وأحست بقرب المصيبة، مصيبة فقدان فلدة كبدها دون رجعة، والتي تتضرع إلى الله كل لحظة وحين أن يحفظ الصبي من كل مكروه. أحْنَتْ رأسها حيث فوضت أمرها إلى اابارئ عز وجل وعادت دون أن تحكي ما حل بها لأحد.

دخلت بيتها ودموع الحزن تنهمر ساخنة على خديها. قصدت سريره الذي يبيت عليه وجلست تناجي الله بصوت عال:

" اللهم إنك تعلم أني عاجزة مستضعفة، لاسند ولاعضد لي في هذه الدنيا وقد أُلبست ثوب الفقر كرها، فلا أملك من متاع الحياة إلا ما أسد به الرمق ، فاحرس إبني بعينك التي لاتنام ."

باتت تَلوكُ الوجع وتنشد الحكايات على أورواح مرت من ذاكرة الماضي فهي تخاف أن تُسْدِلَ المنية ستارها وتَكْثُمَ الأنفاس وتُكَرِّرَ الصورة، صورة زوجها الشهيد المجهول، الطَّيْفُ المنسي الذي لم يُكتب إسمه عنوانا لزقاق أولشارع ولم يوضع له نصب تذكارى تتردد عليه الأرامل والثكالا، بل خَلَّفَ وراءه ضريبة الوطنية وترك الوطن لِجِشاعِ السياسة. في ثنايا هذه اللحظة الأليمة التي صامت فيها عن الكلام و سمحت لنفسها بالنبش في أرشيف ذبُلت أوراقه وسقطت من غير رجعة، دُقَّ الباب وانْتُشِلَتْ من القوقعة، لترى أمامها ملاكا صغيرا ارتسمت على ملامحه ابتسامة بريئة بلباس بال و أنيق يشبه أطفال الستينات في زمن الضرورات، وما هذه الصورة التي يترائ عليها إلا نفحة من نفحات الإملاق ووسم لأمل مفقود لطفولة تعيش التيه وقتامة المستقبل، مكبوحة بين حيطانِ غربةِ مسقطِ الرأس وانسداد الأفق. تنفست لالة مسعودة الصعداء وجَرَّت ضناها إلى حُضنها الدافىء تتلمسته بيديها من أعلى رأسه الى أخمص قدميه وكأنه نجا من حرب مدمرة ضروس أتت على الأخضر واليابس، ثم قالت: " يابني، دعني أسمع دقات قلبك، وأشم رائحة عطرك الرباني، وأسعد بوجودك قربي وأتذكرجسدك الذي نام في أحشائي قبل أن تبني عالمك الطفولي المنمق بلون البراءة وعشق الأحلام." صاح المسكين : "أماه مابك مكدرة الوجه، لقد أتيتك بهذا الديك البلدي، فَلَنا عَهْدٌ بَعيد بقضمة لحم طير مما نشتهي، ورشفة مرق تُشَمُّ بهاراته من باب الدرب." تنبهت الأم الى الديك السمين الذي يحمله ولدها، وصاحت : " وَيْ، من أين جئت بهذا؟" رد عليها بكلمات بريئة وعفوية تحمل الدلالة نفسها دون تأويل: "ديك يجري ويرتع من زقاق الى زقاق، حر طليق غير مملوك لأحد، ونحن أحوج إليه في هذه البلدة من غيرنا." كادت محاولة الطفل لإقناع الأم بحقيقة الواقع المر، فإذا برجل ضخم البنية، ذو رأس كبيرة تحمل صلعة جرداء قاحلة كصخرة صماء ملساء تدخلت التعرية الزمانية في نحثها، دخل وقد نسي تحية الإسلام و آداب الاستئذان وحرمة المكان، وانقض على الولد ووجهه مكفهربتقاسيم متجهمة تفضح الغضب في أعتى مراحله. - "ها قد نِلْتُ منك متلبسا أيها اللص الصغير" .انتفضت الأم لابنها وقالت:

-" كيف تجرؤ أيها المستشارالجماعي على إلصاق هذه التهمة بطفل صغيرلم يبلغ الحلم بعد؟، فاللص الحقيقي، هو من أئتمن على حقوق الناخبين فخان، واستغل المنصب لإنصافهم فامتص عرق جبينهم، واختلق مشاريع وهمية للضحك على أدقانهم لتغيير مجرى المال العام الى جيوب الفاسدين منكم. ألا يحق لهذا الطفل الرعاية والعيش الكريم؟، وهو بن الشهيد، الجندي الذي أهدى روحه في سبيل هذا الوطن ليقتات دجاجاك من ضرائب أهل الحومة ويتمتع بالحصانة السياسية و وينعم بحرية الأكل والالتقاط دون رقيب أو حسيب. هيا اخرج من بيتي ولا تضع قدميك هنا مرة أخرى. فإنكم تشبهون بعضكم بعضا، ففيكم لن يتواجد أبدا قنفذ أملس."












Share To: