في تلك الأيام ، كانت للمدرسة هيبة ، وكان المدرّس مقدر وموقر، يشار له بالبنان، كنجم من النجوم . كان نافذا، له شرف وزير، وزمجرة وزئير. وكانت المدرسات الوافدات إلى مدرستنا ، كلهن جميلات، و لعلهن تجملن بالثياب الحديثة الضيقة، والتنانير القصيرة. وكانت أضيقهن ثيابا الآنسة عبير التي فعلت في شباب الحي ما فعله مائة مدفع. في الصباح، يخرج الشباب على النواصي ليشهدوا موكبها إلى المدرسة، وكانت إذا مشت، مشت في إثرها أيائل ووعول، وإذا حان موعد خروجها، إستنفروا إستنفارا، ينفخون صهدا من صدورهم ويتحرقون شوقا إلى الإبتراد، ويشتمون حظوظهم السوداء، ويتوقون إلى تحريرها من ذلك الضيق، فللحرية الحمراء أبواب كثيرة.
رأى الأصدقاء الثلاثة الإثنان معا : رمز الهيبة والرعب، ورمز الجمال والرغبة، أمام باب المدرسة، السيد عنتروالآنسة عبير، وقد أتيا للمدرسة من أجل درس خاص جدا، درس الحركة الوطنية، وهو أخص درس عرفه قسمنا، الدرس الذي نصوم فيه عن التشويش والمضايقات و المزايدات . اليوم يوم عزة يا ليوث البر والغاب،
فالمهمات التربوية لا أهمية لهافي غيا ب الدرس ونشيده . لكن لقاء السيد عنتر والآنسة عبيريثير الشكوك. لقد نجح المدير في إشراك الآنسة الحسناء في دسترة الدرس، هذا هو الإدماج، أي دودة ذهبية نصبها في الشرك يا عباد الله؟ صادها صيد الحمام . لم يجرؤ على إصطحاب الحمام إلى البيت، فجاء به ليزين به المدرسة، العلم نور.
لا قبل لنا بالدولة وأغانيها وأنوارها، كره الأصدقاء الثلاثة هذه الأغنية، وإن كانوا يتحرقون للمشاركة في الحفلة السنوية فيها بنات جميلات والآنسة عبير هي المسؤولة على تعليم بشرية هذه المدرسة السلم والأوزان الموسيقية ، ماذا نفعل؟ وقعت الآنسة في أسر السلطة والهيبة، وبدلا من أن تكون معلمة صارت تلميذة، ووقعت السلطة والتعليم بدروها في فخ حاجبي إمرأة منصوبين كالمشانق، إستبقا الباب هو وهي، وقدت قلوب الصبية من قبل ومن دبر، وطال اللقاء في الداخل، إمتد الدرس الذي وسوست بهاالتوجيهات لأجيال من العيال، والثلاثة واقفون ينتظرون على النار. ماذا نفعل أيها الأصدقاء؟ هذه نكاية ما بعدها نكاية، لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم. المنية ولا الدنية، تعالوا نثأر للعلم، يا ضيعة العلم والنور.!
سنقيم لهما تقييماوتكريما . وطفقوا يرجمون نوافذ المدرسة بالحجارة، فحطموها، وإضطر السيدعنتر إلى الخروج لتفقد القصف الجوي الذي أفسد التوضيح والتأهيل، أخرج رأسه من الباب، فأطل على الأصدقاء متلبسين بالجرم المشهود، فألقوا حجارتهم وتواروا خائفين. ليس أكثر غضبا من الإنسان سوى الحيوان إذا ما أفسد عليه الشراكة والدرس، يصير النور في عينيه ظلاما، ويصبح الثأر لزاما.
غادر المسؤول التربوي أوالسيدالسياسي مع الآنسة في سيارته الجيب بعد إتمام ممارسة النشاط التربوي، ودعم علاقة التاريخ بالتمشي البيداغوجي لكن ليس حسب المجموعات بل حسب القدرات الفردية، غادرا بعد أن لقنا المقاعد والحيطان والسبورة والشعارات المدرسية درساً لن تنساه أبدا. شبعت المقاعد من الطرب والمتعة والتربية وكفرت بالشعارات الكثيرة التي لا طعم لها من هول السعير.
نام الأصدقاء الثلاثة ليلتهم تلك، وهم يمضغون الذل والهزيمة كما لو أنهم خسروا موقعة، وفي الصباح واجهوا إمتحان تحية العلم، سيأتي المدير ويتفقدهم، كما يتفقد المدرس أظافر التلاميذ صباحا، البراثن ممنوعة، الشعر الطويل ممنوع، واللباس القصير ممنوع و الهندام موحد. فماذا هم فاعلون، قال عمر: نختبئ في المراحيض. فعلا ليس أمامنا سوى هذا الحل. رنّ الجرس، فإختبأوا في المراحيض، وآثروا رائحة الحموض، والمخلفات البشرية على العقاب، وجاء المدير وتفقد خصومه، وسار بين الصفوف مثل بن شداد قبل الغزو، فلم يجد غرماءه، صدحوا بالنشيد، وتبرع الكرماء منهم بالأصواتهم ، فإستمتع المدرسون بالرنين وصفقوا. ودخل التلاميذ الأقسام.
أخرجوا رؤوسهم، الباحة خالية، هرعوا إلى الأقسام متفادين المرور أمام باب الإدارة، دقوا على الباب، ففتحت الآنسة عائدة مستغربة: هذا التأخر جريمة ويلزمها عقاب. المدارس تشبه الخدمة العسكرية. أين كنتم؟ سكت الثلاثة.. قال عامر مخترعا كذبة: أضاع عدنان قطعته النقدية وكنا نبحث عنها. - قال عمر: سقطت في الصرف يا آنسة..
الآنسة عائدة رقيقة وحنونة، سمحت لهم بهم بالدخول، في مرة سابقة، شكتهم إلى المدير، فنالوا عقوبة الفلقة أمام تلاميذ القسم. أشارت إلى اللوح: فقرأوا: إنشاء وتعبير شفهي. هذه هي المرة الأولى التي تطلب معلمة تعبيرا شفهيا، التعبير دائما موضوع مكتوب، موضوع عن رحلة، أو معلم في يوم عيده، أو أم في عيدها، أو فقير بحاجة إلى مساعدة. من منكم قادر على رواية حكاية، لن تعاقبوا مقابل حكاية، الحكاية ديّة التأخير. رأت الآنسة هذا الحل الظريف للثلاثة، فرفع الصبي الضّلّيل إصبعه متطوعا، وخرج ووقف أمام التلاميذ وراح يحكي باللهجة الدارجة حكاية فكّر فيها طوال الليل قبل أن ينام، حكاية المدير مع عبير اللذة والخيال: كان يا ما كان، رجل إسمه صالح ورجل إسمه طالح وكان الطالح لا يفارق صالح لا في البيت ولا في الشارع ولا في العمل، وشُدهت الآنسة عائدة وقالت وماذا بعد..
تابع الولد: وفي يوم من الأيام كان طالح جالسا على الطريق نائما فمر أحدهم فسمعه يتمتم صالح صالح فقال بلهجة فيها الكثير من الإستفزاز "سيب صالح". فضحك التلاميذ . وسكت الولد فقد إنتهت الحكاية.
سألت ضاحكة: ما معنى كلمة "سيب صالح" ؟ قال الصبي: لا علم لي.حينها قامت الآنسة عائدة وصدحت بصوتها : أصل كلمة " سيّب صالح "
Post A Comment: