يُعبر الكاتب عما يجول بخاطره عن طريق الأسلوب الأدبي بطريقة حالمة وخيالية وذلك ديدن أهل الشعر والنثر وتعتمد رجاحة الأسلوب على المعاني والأفكار وأساليب الصياغة والمؤثرات الفنية من خلال الصور وتوهج العاطفة وبهذا نجد الشاعر مبتعدا عن الأساليب العلمية أو الرقمية لأن عملية الإنتاج في انفتاح غير خاضعة لقوانين وأنظمة محددة وذلك يأتينا بالجمال والإبداع وهذا ما وجدناه في نصوص البناي فقد تحرر البناي من كل القيود رغم أنه لم يغفل الواقع لأنه جزء منه ولكن طريقة عرضه كانت متحررة وهذه محمدة تُحسب له ..
لقد كان للانفتاح الشعري الأثر الواضح في التحرر وهذا ساعده كثيرا ليحلق بعيدا في فضاء الأمكنة والأزمنة قال في فوضى مشفرة :
لا فرق عندي
أن أطالع فوضى العالم
وكيف تتحول الحدائق
إلى مسالخ
وخرائط سوداء
أو أن أقرأ حكمة
كتبها فيلسوف ماكر
نحن أسرى المتناقضات ....
لاحظ المزيج بين الواقعية والخيالية ومن ثم الفلسفة التي زجها بالنص من خلال الجمع بين النقيضين
أسرار وخفايا .. جمال وقبح .. حروب وسلام .. حقائق وأساطير... فعلا فوضى مشفرة .
إن الشعر هو مزيج نكهات من الحضارة والحقيقة وروح الفن التي تكشف الحجب وذلك من أجل أن تجعل العالم يعني شيئا فالشاعر قوة ضاربة يقتحم الوجدان وفي أحيان يكون فيلسوفا وهذا يعتمد على المزاج الشعري ومدى المؤثر على ولادة النص والآن تمعن في هذا النص لتدرك قوة التأثير على المزاج الشعري قال في عازف على أطلال ترابه :
البلاد التي اصطفيتها يا الله
وأشبعتها خبزا
أدمى عيونَ تنورها
صنّاعُ الموت ....
وأطفؤوا سحر الغبش
الجاري بأنهارها
نكاية بالاخضرار.
قف قليلا على اسلوب النداء وهو يجسد الوجع الواقعي لما دار حول الشاعر بأسلوب فني رائع وكيف يرسم صور الموت من خلال صنّاعه وهم أعداء الحياة ثم ينتقل ليصور لنا لوحة تصويرية لسحر الفجر حتى يموت الاخضرار وهو رمز للحياة والجمال ..
قال في نص انتظار :
علّمْتني..
أن اختفاء النهر
في اليباس
خيانة لأنوثة الحياة
وصلاة الناي
باطلة بلا أنين
تزحف نحوها شياطين القصب
علمتني أن الغناء
يغسل البساتين والوجوه
ويطرد الشياطين
عن وحشة الظلام ..
لم تخلُ نصوص البناي من صور رائعة وظفها بطريقة سلسلة وأحْبَكَ نسيجها من خلال تطابق اللفظ والمعنى ومزجها قليلا بالرمز والانزياح وابتعد فيها عن السجع وزج البلاغيات فيها وبقوة ونحن نشيد بما كتبه لمطابقته جميع المواصفات النثرية التي تبعث الجمال والدهشة ولأنه كتب العمود منذ زمن طويل راح بأسلوبه الجميل ينثر بطريقة رائعة تفوقت على طرق أهل النظم وذلك نجاح يحسب له ...
الشاعر الحقيقي هو من يصل إلى درجة الإقناع ويثبت بأن القصيدة قادرة على أن تحدث تغييرا أو تترك أثرا باقيا على متلقيها بغض النظر عن مسمياتها وشكلها ..
قال في نص اعتراف متأخر :
كان عليها أن تتريّث
قبل أن تمنحني ثمارها
فهي لا تعرف
معنى انحسار الماء
عن الشجر .
وضياع النوارس
حين يستدير البحر
راجعا بلا سفن ...
بالكاد تكون اختزال تام لشرح قضية النوى والبعد التي أرهقت الشعراء لقرون مضت وهم يصورون ويجسدون الفراق بين حبيبين ...
لقد نجح البناي في عملية الاختزال المجدي وابتعد عن الاسهاب وبهذا حقق التفوق فعملية الاختزال تحتاج براعة فائقة ..
في أغلب نصوص البناي كانت عملية المونتاج الشعري مجدية ومثيرة وبهذا كانت عملية التركيز الشعري موظفة بطرق سليمة وربما لتحرر الذات الشاعرة الأثر في ذلك النتاج الجميل ..
لقد أسهب البناي في زج الأفعال وهو أمر يحسب له لأن الفعل له حركية ومدلولات كما أنه عامل أساسي في رسم الصورة الشعرية، ناهيك عن مفردات الطبيعة التي أتت بثمارها والتي كان لها الدور الريادي في جماليات النصوص...
ما يفسره البياض عنوان محكم وشمولي ونحن نشيد بعنوان المؤلف ، بعض النصوص لاحظنا فيها صورا جزئية وليست كلية أي مالت للتشكيل أو الرمز وهو أمر يبعث التأويل وقد يعود لرأي الشاعر ونحن لا نعترض على ذلك ولكننا نؤكد أن البناي نجح وبرع في الحفاظ على الوحدة الموضوعية في نصوصه وهو أمر يستحق الإشادة عليه لأن أغلب نصوص النثر تفقد وحدتها الموضوعية ..
صدر المؤلف عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ووقع في ٨١ صفحة .. مبارك وإلى مزيد من التألق.
Post A Comment: