وصلتني دعوة كريمة، من إدارة مدرستي الابتدائية، مدرسة رفعت وجدي البهنساوي الابتدائية، بمناسبة مرور خمسين عاما علي تأسيسها، وباعتباري أحد أولئك التلامذة النوابغ ، والتي شرفت المدرسة بالتدريس لهم. سررت أيما سرور، وعشت أياما أحلم بالحفل، وبلحظة التكريم، ودموعي تنهمر علي وجهي، وزملائي من حولي في صورة تذكارية ،نستعيد أمجاد وأيام الماضي الجميلة .
حرصت علي الحضور في الميعاد، والإلتزام بالنظام حتي لا أفسد قدسية تلك اللحظة التاريخية .المدرسة في أجمل صورها، البالونات فوق رأسي، والزينة في كل مكان. في البداية قدموا لنا بيبسي كولا وجاتوه. ثم بدأت كلمة الناظر، التي كانت حماسية ومشرفة. وبين الفينة والأخرى كنت أتجول بعيني، بحثا عن أحد من التلامذة الذين زاملوني طيلة فترة دراستي هنا، الغريب أنني لم أجد أحدا منهم، وكأن جمهور الحاضرين جاءوا من مدرسة أخري . جلست مؤدبا بين الجمهور، حتي ذكروا أسمى بين أسماء المكرمين الذين لم أرهم من قبل! . قمت من مجلسي ، واتجهت إلي المنصة، حيث هيئة التدريس، وشكرتهم ممتنا لتذكرهم لي . ثم قدمت لي طفلة من تلامذة المدرسة مظروفا مغلقا، وطلبت أن أفتحه ، وصوتها البرئ يتردد أصداءه من الميكروفون إلى جميع الأرجاء ،قمت علي الفور بفتحه، وإخراج مافيه، فإذا بشهاداتي المدرسية الصفراء، مختومة بختم المدرسة الأحمر . شرعت في التأمل فيها ببطء، كمن خدرت أطرافه فجأة ،ثم حاولت، من هول المفاجأة، أن أجلس، فوقعت علي الأرض. تجمع الأطفال حولي وساعدوني علي النهوض مرة أخري،ثم أجلسوني بجانب الناظر الذي لم يفعل شيئا حيال ذلك، ولا هيئة التدريس،ولا جمهور المدعوين، كانوا جميعا صامتين، وكأنهم يشاهدون عرضا مسرحيا. لكن من رفعت وجدي البهنساوي هذا؟ ماذا كان يعمل؟ربما يكون صاحب المدرسة. توالت الأسئلة فوق رأسي، وكأن صنبور مياه فتح علي آخره. ثم تذكرت كمية الدوائر الموجودة في الشهادات، كلها بالقلم الأحمر.
تركت الحفل غضبانا، وأنا أعتقد أنهم جاءوا بي إلى هنا، ليسخروا مني، حتي وصلت إلي البوابة، وهناك كانت المفاجأة، عم رفعت صاحب الكشك الملاصق لبوابة المدرسة ، وجدته في إنتظاري، وعندما رآني أبتسم من وراء نظارته الطبية، وصلعته الشهيرة قائلا :يا محمد، انت تنسي كثيرا، ثم مد يده :مقلمتك. أخذت المقلمة من يده، وعدت للحفل والحضور الذي استقبلني بتصفيق حاد ومتواصل عند دخولي،وأنا أرفع المقلمة بيدي لأعلي. ثم بدء النشيد الوطني، ووقف الجميع إحتراما. ثم بدء السادة الحضور، بما فيهم الأطفال، في تحية بعضهم البعض، ثم انصرفوا إلى حال سبيلهم.
2
وضعت الصابون علي وجهي وشاربي، فبدوت مثل بابا نويل ليلة رأس السنة. سررت لتلك المقاربة، وأعجبت بنفسي وخاصة في ليلة كتلك، سيتم فيها تكريمي. الموسى حاد وسريع، كنت كمن يتزحلق علي الجليد، ووجهي تحول إلى ساحة ألعاب . أخيراً، إنتهت الحلاقة بسلام، وبدون أي جروح. وجهي يتلاءلاء في المرآة. أحس، أرسل واستقبل مثل الأطفال. منذ علمت خبر تكريمي، وأنا أعيش في ذكريات المدرسة، تذكرت، فيمن تذكرت، وليد نور الدين، ثالثة ثالث، هذا الطفل الذي سرق صندوق العملات النادرة من والده، وأعطاه لي مقابل خمسون قرشا، ادخرتها من مصروفي. كان متحمسا وهو يحكي لي عن صندوق العملات، الذي يخفيه والده، بجانب الغيارات الصيفية، في الدولاب، حتي فاجأني في صباح كذاك الصباح بالصندوق . كان وليد لا يعرف بالطبع قيمة تلك العملات. أخذت الصندوق، وسرت في طريق العودة للبيت، كمن عثر علي كنز، ويخشى أن يطلع عليه أحد . فتحته في البيت،عملات غريبة ورقية ومعدنية، وبلغات مختلفة، لم أعرف منها غير العربية وصورة الملك فؤاد الأول ونجله فاروق. جاء أبي من عمله، فعرضت عليه الأمر ، فنظر لي نظرة غريبة جدا، ثم أخذه ووضعه في المكتبة . بعد يومين وجدت وليد يقول :بابا يعرف باباك... لقد أعاد أباك الصندوق لأبي. ثمة خطأ ما، كنت مشتركاً بالطبع، وبالرغم من التسع سنوات التي كنت، إلا أنني كنت أدرك شيئا ما، أعرف بطريقة ما قيمة هذه الأشياء، كما أعرف بغريزتي الفارق بين الحلال والحرام، تري أين وليد نور الدين الآن؟
لكن، لماذا اختارني، أنا بالذات ، من بين الزملاء(الأطفال) ليعرض عليه تلك الصفقة؟
الآن، أدرك، وبشكل شبه يقيني، أن بداخل كل منا شيطان، يجب علينا مصارعته ، ومن ثم ترويضه، هذا إن استطعنا، وعلي مدار حياتنا لا يتوقف هذا الصراع، ولا يخلوا من معني .
عدلت من وضع رباط العنق في المرآة، ثم قمت برش عطر حول عنقي وعلي المنديل القماشي الأحمر. نظرة أخيرة في المرآة عكست ترددي وقلقي. زوجتي والأولاد عند حماتي منذ الصباح . فكرت إن اختيار الجمعة كان مناسبا لإقامة الحفل،ومن ثم وجودي في اللحظات التأملية وحيداً.
3
حركتي شبه سريعة، وقلقة، وأنا أرتدي المريلةالمدرسية البيج. ينتابني شعور بأني أكبر حجما وعمرا بالنسبة لهذه المريلة، التي حاكتها الست رئيسه الخياطه،جارتنا وصديقة أمي، لهذا، ربما، أشعر بخجل،كما أعتقد علي الرغم من طفولتي، أنهم ينظرون إلى، وينقدوني علي هذا الملبس الغريب . كنت أراهم في الحلم يقولون :أنظروا إلي هذا الضخم، إنه يرتدي مريلة، ويضحكون. طريق العودة للبيت طويل، واهتدي إليه دوما بغريزتي،أخيراً، اقتربت.
أصداء وجودهم تتردد حولي في الجو، هم حقا القوي الناعمة التي تحميني وتعينني، أبي.. أمي..أخواتي.. المدرسة، حسني مبارك، إنهم الأمان بالنسبة لي. العودة من الفترة الثانية تشعرني دائما أننا كثيرون، ولأن هناك بالضرورة فترة أولي ازداد وتعمق ذلك الشعور لدي، وأن السبب ليس لقلة المدارس،، ولكن لكثرتنا، وقد عمق ذلك أيضا إعلانات (إنظر حولك) ودعوات تحديد النسل، علي الرغم من أن مطروح محافظة نائية،ويحفزون الناس من أجل القدوم للعيش فيها!.
وتبقي نظرة أبي العارفة، والباحثه عما هو أعمق، وحيدة ومتفردة، وعلامة فارقة علي الأحداث ،و إن لم أكن بقادر علي فك شفرتها في حينها. لكن تبقى أيضا علامات استفهام علي الكثير الأسئلة، ومنها من هو رفعت وجدي البهنساوي؟ وما هي وظيفته؟!
Post A Comment: