أصبح بني آدم اليوم يعيش في دوامة لا تسعفه قواه في تخطي حدودها رغما عن كل محاولاته الانقلابية التي تبحث في العبث المجهول و تتجرأ على القيم و على كل ما تعارف عليه المجتمع من عادات وتقاليد.. ورغم غوصه في بحر الحداثة والعصرنة باعتبارهما قنطرة لا مناص له من المرور عليها للوصول إلى بقعة الضوء التي تتراءى له من بعيد، يود لو يمسكها بيديه للظفر بمستقبل ينعم فيه بحياة أبدية مع جهله للمصير الذي ينتظره.. رغم كل ذلك فأنسنته تَشُدُّه بقوة إلى عالمه القابع في ذاته.. وهو يحمل على الدوام حنين العودة إلى زمن البداية.. زمن الحكاية في ليال مقمرة صافية يخترقها نقيق الضفادع وصرير الجنادب.. زمن أنين صوت الْجَدَّةِ وهو يعبق المكان حين تمتطي صهوة جوادها وتطلق العنان لمخيالها، فتَشْدَه الأبصار و يُطْبَقُ الصمت على أفواه الأحفاد.. وتنشرح الصدور شوقا في مغامرة تنقلهم إلى عوالم تختلط فيها الوقائع والأحداث… وتَحَوَّلَ تَحَلُّقَهم حولها الى مسرح فيه يغنون ويهتفون ويَتَأَوَّهون من جراء كل حركة أو كلمة أو لقطة تجسدها الجدة.

وجميعنا لن ينسى الجدة كمَجْمَعَ العطفِ والمحبة، ومورد الحكمة والرزانة، ومرجعا تحمل صفحاته عناوين لحكايات شعبية منها استخلصنا دروسا وعبرا شكلت بنية لمختلف مكونات الفعل التربوي أنذاك، بحيث اِسْتُثْمِرَتْ القيم الجمالية والاجتماعية والسياسية،وآفاق التخيل المتنوعة المستخلصة من هذه الحكايات في بناء شخصية مغربية قوية لأجيال الستينات والسبعينات والثمانينات..

والمؤكد حاليا أن ناشئة اليوم تواجه غزوا إعلاميا وتكنولوجيا قاسيا زاغ بها عن أخذ المشعل للحفاظ على الحكي الشعبي وتذوقه من أفواه السلف: فأفلام الكارتون التي تبثها قنوات عربية للأطفال تتضمن برامج معربة لقصص ما يسمى بالخيال العلمي، والأمر في الحقيقة لا يمت إلى العلم بأية صلة ،هي قصص منتقات وموجهة تهدف الى جَزِّ الناشئة المغربية خاصة والعربية عامة من عمقها العربي والإسلامي وكمثال على ذلك نجد قصصا متحركة شخصياتها أخذت الألوهية بصفاتها وقوتها الخارقة التي لاتقهر، وصفة الخلق من عدم وهنا وجب النظر الى هذا الحكي المنظور من جانب الحمولة الثقافية الفارغة من القيم الأصيلة التي تحافظ على الهوية المغربية العربية الاسلامية لأبناءنا.. وألعاب الهاتف الجوال التي تأسست أحداثها وشخصياتها على نقل ونشر العنف والعدوان بين الأطفال حتى أصبحوا يفكرون بعضلاتهم قبل التفكير بعقولهم..

هذا التغيير في سلوكياتهم و الذي أحدثته التكنولوجيا في زمن العولمة ساهم في اندثار الحكي الشعبي المغربي كتراث شفهي، حرمهم ( أبناءنا ) من جلسات الحكي العائلية الرائعة حول الجدة منارة المعرفة والثقافة والتسلية. . ونحن أطفال كبار تجاوزنا الأربعينات والخمسينات ،ازداد شوقنا لها بشكل كبير خصوصا حينما نجد أنفسنا في خلوة انفرادية واضطرارية.. وسط أسرة متناثرة الأبناء حول أركان البيت.














Share To: