أنهكه الانتظار، ارتمى فوق سريره المتهالك، يتدبر، يفكر في كل التَعينات التي من الممكن أن تكون من نصيبه، كان يتدبر تلك الأقرب إلى قلبه و يبتسم ويرى نفسه يتسكع بين أسوار تلك الاختيارات ، و من حيث لا يدري تباغته تلك الاختيارات التي لم يعير أي رغبة في اعتناقها لتختطف ابتسامته ، و تجعل أسنانه تصطك ودواخله تنقبض حزنا.
 كان تائه و هو ممدد فوق سريره كالجثة بدون روح، مترهل ضائع يسبح ببصره متدبرا تلك البقع السوداء الذي بدأت تنتاب طلاء سقف غرفته ، لا تهمه في شيء الآن ،  يتدبرها ويتساءل عن سبب ظهورها محاولا إزاحة خيوط تفكيره من التفكير تجاه ما يشغل عقله هذه الأيام ، في أي مؤسسة سوف يتم تعيني، هل في هذه المؤسسة؟ أم تلك المؤسسة الأخرى ، تخمة من التساؤلات عالقة في ذهنه في حاجة إلى جواب. 
ليست له القدرة على الإجابة ، و السبيل الوحيد هو الانتظار حتى تبزغ شمس اللائحة المرجوة التي طبخت على نار أكثر من هادئة.
 انقشع نور هاتفه و لحقه الصوت يرن ، و هو تائه يفكر في كل تلك التكهنات ، الهاتف بعيد عنه بأمتار قليلة ، ظل ينظر إليه و هو ممدد في فراشه، والأفكار لا تنحبس على ذهنه ، كأنه ليست له القدرة على النهوض ، وغير مستعد الآن للحديث مع أي شخص ، و صوت الهاتف يبعث في دواخله الفزع.
 نهض من فوق السرير مزيحا الغطاء من فوق قدميه ، وكل ما فيه يرجو أن يخفض صوت الرنين ، و عدم الرغبة في الإجابة تنتاب أنفاسه داخل هاته الغرفة المعتمة و هو يخطو تجاه الهاتف.
 وقف لهنيهة قبل أن يمسك الهاتف متدبرا اسم المتصل، بعت في نفسه شيء من الارتياح عند التعرف على هويته .
 تنهد قائلا و هو يحاول أن يمتطي هاتفه من فوق المكتب :  خير إن شاء الله ، خير .
 حمل الهاتف و ضغط على زر الإجابة وتفوه قائلا : السلام عليكم بشكل مضحك كأنه يتعمد التمرد على تلك الكلمة المتوارثة عند الإجابة على كل المكالمات الهاتفية.
 كانت تضحك بشكل هستيري وهي تضع الهاتف على أذنها، قبل أن تقول أي كلمة، ارتسمت على شفتيه الابتسامة وهو ينتظر بفارغ الصبر أن تقول شيئا.
 استجمعت قواها محاولة أن تحد من هيستيريا الضحك التي تتملكها وأردفت قائلة :
 دون مقدمات ،  إسماعيل، إسماعيل، لقد تم إعلان نتائج التعينات ، لقد تم تعينك في مؤسستك السابقة.
 اختلط عليه كل شيء و هو يتذوق طعم جملتها الأخيرة ، وهو يعي جيدا عن أي مؤسسة تتحدث ، كأنه لم يكن يدري أنه سوف يتلقى هذا الخبر بهذه الطريقة أو خلال هاته المكالمة الهاتفية.
 ارتسمت على ملامحه تعابير الفرح ، وتأوه كل ما فيه بالسعادة كما لم يتفاعل من قبل مع أي خبر ، واختطفته ذبذبات الفرح إلى حيث كان مشدود بحواسه دائما.
 انتباه الحنين ، واختطفته كلمات  خبر تعينه إلى ذلك الماضي الذي يسكن ذاكرته ، بدأ يتدبر كل تلك الصور المستوقفة في ذاكرته ، كأنها حديثة الالتقاط ، كان يحن لتلك النظرة الأولى و هو يري المؤسسة ، و هو يلقمها بشغف مكسور الدواخل ، وهي غارقة تحث طلاء أزرق سماوي ، و كل تلك اللحظات الرائعة التي تنفسها بين أسوارها ، دون أن ينسى ذلك الرائع الذي كان يقاسمه كتبه المدرسية على نفس الطاولة.
 اختمره الحنين لكل شيء بالمؤسسة، و لتلك الخطوات الأولى و هو يلج أسوارها و بين يديه ورقة مغادرته مؤسسته السابقة دون أن يكون قد تسلم موافقتها.
 كان يحمل حقائبه إليها ، دون أن يخبرها  دون أن يطلب إذنها ، ذهب نحوها كشخص معلق في السماء و لا يحميه شيء من الأرض يترجى في أسوارها السبيل.
 دون أن يسأله عما يريد فتح له عامل الحماية بالمدرسة الباب بعدما أخبره برغبته في مقابلة السيد المدير.
 مشى أمامه إليه ، و تسمر أمام مدخل الإدارة و أومأ له برأسه بتجاه المكتب.
 كان باب المكتب مفتوح تعلوه لافتة مكتوب عليها ، مكتب السيد المدير .
 طرق الباب بهدوء دون أن يترقب هل يوجد شخص ما بالداخل أم لا، فتسرب صوت من داخل المكتب بنبرة ذكورية تحيل أنها تفوق الأربعين.
 تفضل، تفضل!!
 فدخل ببطء و هو يحسب خطواته محاولا ترتيب تلك الكلمات التي يرجو فيها إقناع السيد المدير، ألقى التحية و هو يحاول الابتسام بطريقة تكاد لا ترى أسنانه.
 تفحصه بنظرة خاطفة وهو يرفع رأسه من توقيع إحدى الوثائق، ثم عاد وأخذ ورقة أخرى، وبدأ يتفحصه مطيلا النظر كأنه يحاول أن يبحث عن صورته وسط كل صور تلاميذه بالثانوية المستوقفة في ذهنه.
 تأكد أنه ليس تلميذ بالمؤسسة ، فأشار له بيده طالبا منه الجلوس.
 جلس و الكلمات تتراكم داخل ذهنه ، وهو يتدبر على محياه ذلك السؤال كيف يمكنني أن أخدمه.
بدأ بالإجابة على ذلك السؤال قبل طرحه، بدأ بالحديث واسترسل في شرح كل حيثيات وضعيته، كان ينصت بتمعن دون أن يبدي أي اقتناع بما يقول ، و هو يتفحص اسمه وعمره ومستواه الدراسي على ورقة المغادرة ، ويترقب ملامحه بين الفينة و الأخرى.
 تساؤلات كثيرة تدق ذهنه في حاجة إلى جواب ، وزخم من الأفكار والعراقيل تعترض ذهنه عن قبوله بالمؤسسة، الدراسة انطلقت منذ شهر ، والقسم الوحيد الموجود بالمستوى الذي يدرس به ممتلئ عن أخره.
 كان يلقمه بنظرات خاطفة، وهو يرجو قبوله بين أسوار المؤسسة، وهو تائه يفكر في قبوله من عدمه و عيونه لا تنزاح عن تاريخ المغادرة.
 أزاح الكرسي للوراء، ونهض من مقعده وهو متجه نحو المخرج ليلوح بيده في السماء : تعالى معي .
 سار خلفه وهو يخرج من مكتبه إلى مكتب الحارس العام ، فطرق الباب ودخل مباشرة، وحياه تحية حارة
 ودخل في الحديث مباشرة.
 بالقول: لدينا وافد جديد بالمؤسسة.  
 تفحصه وهو يجلس على مقعده ورد قائلا : مرحبا به ، مرحبا به ، في أي مستوى .
 فأجابه قائلا :  أولى باك آداب و علوم إنسانية ، تم أومأ له برأسه بالإيجاب و على ملامحة ترتسم الابتسامة و هو يغادر المكتب.
 كان يتنفس رحيق السعادة، وهو يسمعه يطلب تسجيله ، كان يريد أن يقبله أن يعانقه، وهو يشرف على المغادرة من أمامه وكل ما يجري به يتحرك حبا اتجاه بشكل لا يستطيع إلجامه.
وهو مشلول بفرحة الرجوع إلى الدِراسة مجددا ، طلب منه السيد الحارس العام ، بطاقته الوطنية من أجل الشروع في تسجيل بعض معلوماته الشخصية.
 سلمها له فورا، دَوَن كل معلوماته الشخصية، وطلب منه 
 أن يذهب وراءه ، كان يتجه تجاه الأقسام، لم يعلم إلى أين يتجه به ، صعد الدرج المقابل لمخرج الإدارة و هو يذهب وراءه ، ليستشف و هو يسير وراءه بعد ذلك أنه يريد أن يلحقه بقسمه.
 لم يكن مستعدا لبدأ اَلدِّرَاسَة من هذه اللحظة، ليس معه لا محفظة ، ولا قلم ، ولا كتاب مدرسي، ومرحلة التسجيل لا تزال تتطلب وثائق أخرى من أجل إتمامها.
 طرق باب القسم بهدوء ثم انتظر قليلا ليفتح الأستاذ الباب ، فطلب منه الدخول إلى القسم، ثم أخبر الأستاذ بوضعيته.
 استشعر دخوله للقسم كما لم يستشعره من قبل، وهو يوزع النظرات بين زوايا القسم يمينا وشمالا، ويتحسس ملامح التلاميذ، كلها وجوه غريبة لم يقابلها من قبل.
 أخذ مكانه في الخلف، وبدأ يجول ببصره في كل أرجاء القسم، يتفقد كل شيء، النوافذ، طلاء الجدران، شكل الطاولات، كان يجول بنظره وهو يتوق إلى كل شيء بالقسم ، والنظرات تتفقده دون أن تحاول أن تشعره بذلك.
 لم يزح نظره على السبورة و الأستاذ يلج القسم ، وهو يحاول أن يقرأ تلك الكلمات بالفرنسية المدونة بالأقلام اللبدية، و هو يحييه بابتسامة باهتة كأنه كان يبحث عن مكان جلوسه ، ابتسم في وجهه وأنزل رأسه ينظر إلى الطاولة ، والرغبة في تفقدها بيديه تتملكه ، كأنه يود أن يشعر بها أن يحس بوجودها و هو يستعيد جلسته فوقها.
 صوت ما يصدر ضجيج في دواخله و هو يستعيد أنفاسه، من الحنين إلى تلك اللحظات التي عجز النسيان عن ابتلاعها و هو منتش بخبر تعينه ، يريد أن يقول شيئا عالق على طرف لسانه و لم تسمح له الفرصة بقوله.
 تسابقت الكلمات من بين شفتيه متسائلة، كيف ما زلت تتذكر كل هاته التفاصيل التي انقضت عنها سنوات، كيف ما زلت تتذكر كل هذه الأحداث ، وكل ما فيه متشبع بفكرة أن الطبيعة البشرية تختزن كل الأشياء السيئة التي تترتب عن سلوكيات الآخر و لا تنمحي مع مرور الأيام ، أما تلك المبادرات الطيبة يبتلعها النسيان بالكاد يجف رحيقها.
 ظل ينصت إليه إلى النهاية، وهو مركز مع كل حركاته و هو يعتق كل تلك الكلمات العالقة في حلقه ليجيبه قائلا وهو يعلم أن حديثه يحمل حيزا هاما من الصواب :
 يمكن أن ننسى أو نتناسى تلك الأيادي التي طبطبت على رؤوسنا ونحن في وضعية مريحة نشق طريقنا إلى الأمام ، لكن عند الانكسار لا ننسى تلك الكلمات ، تلك المبادرات ، تلك الأيادي التي مسحت على رؤوسنا ونحن نذرف الدموع.
 تم صمت هنيهة واستجمع كلماته و أضاف قائلا:
 عندما يتيه العقل، وينزف القلب، ما يبدل تجاههما يَسكن الذاكرة إلى حيث لا تُهب رياح النسيان إلى حيث لا تستطيع خلايا الذاكرة التخلص منه .







Share To: