قال الإمام علي كرم الله وجهه (الناس أعداء ما جهلوا) ويتبادر إلى الأذهان أن مانجهله هو الآخر البعيد المختلف،المغاير،لكن من منا فكر كم يجهل نفسه،ويجهل بيئته وثقافته وهويته،ولا يعرف أساس ما قامت عليه حياته وحياة الآخرين..
لبنان.. ومجموعة من الأفكار الجاهزة والصور النمطية التي تتبادر إلى الأذهان عند ذكره..
الجمال،الطبيعة،الفن والثقافة،الطعام،الحرية،الانفتاح....وماذا؟؟؟
ماذا عن لبنان التاريخ والحضارة..يوافق يوم تاريخ 11 آذار/مارس عيد الأبجدية..
الأبجدية التي انطلقت من سواحل المدينتين العظيمتين صور وجبيل مع جدلية السؤال من أي منهما بدأت الأبجدية..هذا الاختراع الذي غير وجه الأرض والبشرية ونقلها من مرحلة إلى أخرى دون رجعة،وأسس لأغلب ما نعيشه اليوم من رقي وتحضر ورفاهية وعلمنا كيف نحب ونشكوا ونتعلم..انه الحرف،انها الكلمة..وفي البدء كانت الكلمة..الكلمة التي قلبت كل الموازين..وجعلتنا بشراً بكل معنى الكلمة..
فأجدادنا الفينيقيون الكنعانيون كانوا من اخترع الحرف،الحرف الذي نشره "قدموس" ابن ملك صيدا في الميثولوجيا اليونانية الذي تقيم له المكسيك تمثالاً تكريماً له،ويسمى ب "المعلم الكوني"،وهو أمير فينيقي، ابن أحيرام ملك صيدا من ملكة صور تيليفاسا، وأخ كلّ من فينيكس، سيليكس وأوروبا..
صيدا التي كانت مملكة صيدون الفنيقية الصغيرة المزدهرة، وكانت مدينة صور عاصمتها ومرفأها الشهير،والتي كانت ضمن توسّع أحيرام لحدود مملكته شمالاً وجنوباً، فوحّد هكذا الكثير من الممالك الفينيقية التي سُرت فترة من الزمن بقبول قيادته لها..
وأرسل ابنه قدموس واخوته للبحث عن أخته أوروبا وإعادتها إلى صور،فذهبوا مع والدته حتى جزيرة ثيرا اليونانية بعد إن إختطفها الإله زيوس من شواطئ فينيقيا،وعندما وصلوا إلى هناك تبرعوا ببناء معبد وعلموا سكان الجزيرة فن الكتابة،وبقي البعض من مرافقيهم هناك،فيما أكملوا رحلة البحث التي تطول قصتها..
انطلق منها أول "عولمة" تاريخية عندما استهدى رجالها بالنجم القطبي الشمالي الذي اكتشفوه قبل البوصلة في رحلتهم حاملين معهم الزيت والأرجوان والحرف فنقلوه معهم وعلموه لشعوب المتوسط لتسهيل التفاهم معهم،وتبادلوا مع اليونان والرومان المعارف والعلوم والصناعات،فكان هذا الحرف الذي ولد قبل أكثر من 4000 عام من خلال تحليل نبرة الصوت إلى أبسط مركباتها،وتمثيلها برموز سميت لاحقاً بأحرف الهجاء،وانبثقت منها عدة أبجديات منها اللاتينية والعربية الكوفية والنسخية،حيث أضاف اليونانيون عليها بعد انتقالها إليهم حروفا لينة كي تتوافق ولغتهم كما أشار إلى ذلك المؤرخ اليوناني "هيرودت" الذي أكد على أن "قدموس" الصوري (نسبة إلى مدينة صور) هو من علمهم الحرف الجديد،وبينت الآثار عودة العلاقات الفينيقية اليونانية إلى 3000 عام على أقل تقدير كما بينت الإكتشافات الأثرية،فكان الملك أحيرام مكتشف الحرف والأمير قدموس ابنه هو من نشره..
وعقد في الأعوام الأخيرة من حكم داود معاهدة معه استمرت مع ابنه سليمان الحكيم، وكانت تنص على إنشاء أسطول سفن تجارية في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي..
فاستفاد قومه من هذه المعاهدة، وتبادلوا الفنانين والحرفيين والبنائين، فمكنته فترة السلام من نشر حكمه شمالاً وجنوباً موحدا ًبهذا عدة دول فينيقية فرحت بقيادته..
وقد ظهر اسم أحيرام للمرة الأولى في الكتابة المنقوشة على ناووس ملك جبيل الشهير ، المعروفة بنقش احيرام، والتي لا تزال أُمّ الأبجديات الحديثة ، وأقدمها شكلاً.
وقد أكتشف ناووس أحيرام المصنوع من الحجر الرملي والمؤلف من جرن وغطاء العالم الفرنسي بالآثار الفرنسية بيير مونتيه سنة 1923، في جبيل إلى جانب العثور على مقابر تخص 9 من ملوك جبيل الفينيقيين ، وهذه هي الترجمة الحرفية لما نقش عليه - وهو أقدم نقش بهذه الكتابة التي باتت اليوم معروفة، مثبتة أصالة الأبجدية الفينيقية التي صدرتها إلى العالم هذه الشواطئ :
«ناووس صنعه ايطوبعل بن أحيرام، ملك جبيل، لأبيه أحيرام كمسكن للأبد. فإذا ملك من الملوك، أو حاكم من الحكام أقام الحرب على جبيل، وكشف هذا الناووس، يُحطَّم صولجان سلطته، ويُدَركّ عرش ملكه، ويسود السلام جبيل. أما من يمحو هذه الكتابة فليدب في فوهة الجحيم»
وقد حظي هذا الناووس بالشهرة العريضة ، وتعددت الكتابات حوله بالنظر لأهمية الكتابة التي نُقشت عليه ، من حيث تاريخ الأبجدية..
ويعد نقش هذا النص أقدم أبجدية خالصة ظهرت بعد أبجدية أوغاريت،وقد صيغت بلهجة جبيل الكنعانية وبالحرف الآرامي بدلاً من الحرف الأبجدي المسماري الأوغاريتي،وفي هذا النص تغير اتجاه الكتابة من اليمين إلى اليسار بعد أن كان من اليسار الى اليمين في أبجدية أوغاريت،وكانت الأساس الذي انبثقت منه العديد من الأبجديات..ويوجد هذا الناووس في متحف بيروت الوطني كواحد من أهم موجوداته..
فلم لا نعرف قيمة ما نملك؟ وننتظر الآخرين ليخبرونا عنه،بينما تحتفل العديد من دول العالم بإنجازاتها وثقافتها المحلية وتراثها ولغتها..
وقد يعود الكثيرون للتساؤل صور أم جبيل؟ لأجيب بأن الآراء اختلفت بين علماء الآثار والتاريخ من عدة دول،وفي العديد من الأساطير خاصةً بين دول البحر الأبيض المتوسط التي استقبلت سفن الفينيقيين وكان لكل منهم رأيه،لكنها لا زالت تثبت انتمائها لهذه الأرض وأهميتها عالمياً،واسهاماتها في الحضارة الإنسانية،وقد آن الأوان لنحب أوطاننا ونخاف عليها كما ينبغي..
نحبك يا لبنان ونحب كل بلادنا..بكل حروف الأبجدية وبكل اللغات..
خالد جهاد..
Post A Comment: