من الروافد الأساسية للشعر المكان المحيط بالشاعر والبيئة التي يسكنها الشاعر وإذا ما تمت المقارنة بين الشاعر القديم والحديث في المكان ستجد هناك فرقا كبيرا بينهما لأن الحداثة فرضت الكثير من المتغيرات في الأمكنة والتطور الهائل الذي يعيشه الشاعر مع كثرة الأحداث والمجريات والوقائع وانتشار التلاقح الفكري بسرعة فائقة من خلال شبكات التواصل الاجتماعي ، وقد أدى هذا التطور الهائل إلى أن يكون الشاعر المعاصر مواكبا لكل صغيرة وكبيرة وبذلك تضاعفت مسؤولياته اتجاه متلقيه ، ولابد من الإشارة إلى أن الشعر لن يموت مطلقا وسيبقى المتلقي مصغيا قارئا للشعر وإن كان ذوقه ليس مع الشعر والسبب الرئيسي في ذلك يعود إلى الابتكار والخلق والإبداع لذا سيظل المتلقي منتظرا ما يكتبه الشاعر بكل حين لأن ولادة الكلمة كالإلهام لا يعرف زمنها ولا يحدد مكانها .
ولا بد من التعرض للبيئة ودورها الفعال على الشاعر كما أن هناك الكثير من العوامل التي تحيط بالشاعر وتؤثر عليه كالعقيدة والانتماء والاعراف والتقاليد وبهذا يتوجب على الشاعر العقلانية وربما لهذه العقلانية أن تتعارض مع الإبداع لأن الشاعر ذو خيال جامح لا يقف عند حد معين .
وحين اطلاعي على ما كتبته الشاعرة عناية أخضر في مجموعتها الشعرية ( ماسة الشرق )
والتي طبعت بدار تموز / دمشق / سنة ٢٠١٨ ، وجدت للمكان الدور الكبير على أشعارها فهي بنت الجنوب وبنت المبادئ والقيم وبنت الإسلام الحنيف وبنت العقيدة المحافظة لذا كان همها أن تكون كالطبيب المعالج لما تراه غير مناسب .
أخذ الوطن حيزا كبيرا في قصائدها وكان همها القاطن في المخيلة. 
قالت في قصيدة( بلدي لبنان الحبيب ) ص ٩٩
يا أرزةً خُضبتْ أطرافها بدمي 
وَخطّ قلبي عليها أحمر العلمِ 
عبّدتُ للمجد في أفيائكِ طُرقا
حتى بلغت بجدي عالي القمم
أجول في مشرق الدنيا ومغاربها
ورفعُ مجدِ بلادي منتهى حلمي 
بيروت قلبي ولي من بحرها مددٌ
إن داس أرضي عدوٌ أمطرت حممي
توقف بتمعن على حب الوطن والمفاخرة به وكأنه ذلك الدم الذي يسري في الشريان ليقينها بأن لا حياة بلا وطن .
الشاعر الحقيقي هو من يدع المتلقي أن يكون شيئا ما فهو أشبه بالفيلسوف لأنه يشتغل بمرونة عالية وشفافية مدهشة ويملك من الإحساس ما يجعله متأثرا بكل شيء حالما على طول المدى ساكنا في مدن غير مرئية ، وهنا يكمن دور العاطفة وما مدى تأثيرها على الشعر ، لذا يتوجب على الشاعر أن لا يقتل الجمال والإبداع ولا بأس بأن يهذب المخيلة الشعرية حسب قدراته من خلال امتلاكه للأدوات التي تمكنه من ذلك فثمة فرق كبير بين من يملك مخزونا ثقافيا كبيرا وبين من ينظم فحسب ويفتقر لذلك . 
قالت في مقطوعة( يراودني هواها ) ص ٥٥
تميلُ بخصرها وتظلُ روحي
ترافقُ خطوها سرا وجهرا
لها عطرٌ يشدُ الروح مني
فأتبعُ طيفها دهرا ودهرا
يراودني هواها في خيالي 
فأدنو والفؤاد أخال جمرا
تباعدني بقسوتها عنادا
وتطرفُ عينها غنجا وسحرا 
هنا ستلحظ التعبير العذري الروحي لإيصاله إلى نكهة المتلقي وفق مزاجها الشعري ومدى تأثيره على المتلقي مع رسم صورة شعرية ذات معاني ودلالات مختلفة .
عناية أخضر تسير على خطى الرومانتكيين المحملين بالحنين الداخلي والباحثين عن عالم باطني لا يستطيعون البوح به لعدة اعتبارات .
إن النزعة التأملية عند الشاعرة عناية مكبوتة وفي طياتها الكثير من الجمال والإبداع ولكن واقع الحال يفرض رجاحة العقل وبالتالي يذهب الكثير من الإبداع إلى خانة النسيان .
قالت في قصيدة( جرح الفؤاد ) ص ٩٣
أحببتهُ رجلا بكل جوارحي
ملّكتهُ روحي ولستُ أبالي
أفهكذا يجزي المحبّ حبيبه
جرح الفؤاد بحرقة الآمال
ولكم أضعت العمر في أفنانه 
أهديه عمري زاد في اهمالي
ترجمة لتضحيات قُدمت من أجله بلغة المقارنة في العطاء بسلاسة المفردات وبساطة التعبير لكنها مشحونة بالجمال فالفطرة لا تولد إلا الجمال وهي دلالة على نقاء السريرة. 
إن الغوص في عمق المتلقي ولكافة طبقات المجتمع من مميزات الشاعر الحاذق فحينما يقرأ المتلقي قصيدة يشعر وكأنها كُتبت من أجله ومن رؤيتي المتواضعة أرى أن هموم الوطن تشمل الجميع لذا أدعو الشعراء لتكثيف طاقاتهم وإبداعهم من أجل أوطانهم فلا شعر بلا وطن ولا حياة بلا وطن ولا حب بلا وطن ولا عقيدة بلا وطن .
أدعو عناية الشاعرة إلى التركيز والتكثيف الجوهري واستنهاض روح التدفق والتجدد والخروج من القوقعة التي تحيط بها ليس تمردا بل لإحياء ما يولد من دون وضع العراقيل لأن تلك العراقيل قد تقتل موهبة الشاعر اللا إرادية وبالتالي يضيع الإبداع والإبتكار لأن لحظة ولادة المفردة لا تخضع لمحسوبيات .
ورد في المجموعة قصائد متنوعة الأغراض كالفخر والرثاء والغزل العفيف والقصائد الوطنية ببحور متعددة كالوافر والبسيط والكامل والمتقارب والطويل. 
أبارك لعناية شعورها بالوطن بهذه المجموعة الشعرية وأحمد الله حمد الشاكرين وأصلي على نبيه المختار الأمين وعلى آله وصحبه المنتجبين 
وإلى مزيدٍ من التألق .







Share To: