لما توادعا لأول و آخر مرة… 
، كان الخَرِيفِ في خريف عمره…

كانت أمواج السنونو على وشك الإنحسار نحو  شساعات الجنوب البعيدة ، حيث الشمس تفضل أن تشرق أكثر… 
و أشعتها تلمع أكثر زمردية و تشع أكثر دفئًا…

و كانت البذور الجافة ، الشبه ميتة، تتناثر بتثاقل من بين أيدي الفلاحين ، في صباحات أواخر الخريف الباردة،  على سطور الحقول المديدة و التي بعد أشهر قليلة ، ستصير محاضن للإنبعاث وَ الإِزهآر  وَ…الحياة

***

يآ ترى…
هل و كيف ستنبلج ، بعد أشهر قليلة أو ربما أعوام عديدة،  من مقابر الصمت و الإنكسار و الإنحسار هذه ، بذرةُُ  مّآ مِن هذا الوداع الصغير  و الفراق الكبير  ،   

كيف…
لطريق انكسر
لغصن انبتر، 
لِحُلُمٍ تَحَلَّلَ و اندثر، 
أنْ ينبعثَ و يُثْمِر…؟

***

لَمْ يتبادلآ أيَّ كلمآت،
لم ينطقا و لو بحرف وآحِدٍ وحيدٍ يتيم…
يتيمٍ يُتْمَ ودآعِهِمآ هذا …
و يُتْمَ كينونتهما هذه ، بعد هذا الفرآقِ الجآرح

وَ هذآ…
ليس راجع …لِقِلَّةِ أو انعدامِ العِبآرآت أو الكلمات المناسبة لقداسة و تعاسة هذه اللحظة و المناسبة…و لكن  لِأن قوة طاقة اللحظة المتفجرة آنذاك في ذلك المكان ، و المتكونة من مجموع عشقهما و روحهما التي صارت واحدة ثم انفلقت غصبا ، لآ إلى اثنين كسابق عهدهما قبل حلول نورانية العشق فيهما ، بل إلى شظايا لامتناهية العدد و دائمة الظلام و التشظي…كانت تفوق بأضعاف مضاعفة  ما قد تتوهج به أيُُّ كلمآتٍ من مواساة و مناجاة مهما كانت طاقتها و قوتها من هديرٍ و بلسمٍ وَ اطمئنان…

…تماما كما هو حال الإنشطار النووي إذ تنفلق الذرة، أصغر وحدة وجود في الكون ، إلى مكونيها الأساسيين، و يَتْبَعُ ذلك إنفجآرُُ هائل مدمر للذرة و كذآ لِمحيط انفجارها…

***

لم يتعاتبا، لم يتشاجرا، لم يتكلما…
أرادا ، لآ إراديًا ، فقط أن يُنْطَقا معًا 
عبر صمتهما المشترك، و لو لآخر مرة 
عوض أنْ يَنْطِقآ ولو بحرف  واحد ، فَتتهشَّمَ  فسيفساءُ، وَ جمالية ، وَ جماعية نُطْقِهِمآ مَعًا صمتًا … فَفِرآقًا

 فَبِمُجَرََّدِ 
النطق بالحرف  الأول من الكلمة الأولى لحظة الفراق الكبير ، ستنتفي و ستختفي إلى الأبد هآلةُ  وَ قدسية هذه اللحظة ، و التي لآ  تتكرر أكثر من مرة ، إن حصل هذا، في حياة أي إنسان في صيرورة هذا الوجود …  

هذه القدسية المنبثقة بالضبط من نهائية اللحظة ،  من حشرجة العشق و من فراق الروح…

***

وَ لربما …
كان صمتهما هذا ، في لحظات حشرجة عشقهما هذه، هو الأنسب  ، لِكونهِ المقابل الطبيعي لصمتهما لحظة اللقاء الأول ، حيث كانت النظرة-الفجأة ، النظرة-القدر  هي التي أيقظت في روحهما  ذكرى جَمآعِيَّتِهِمآ و أشعلت جذوة عشقهما أول الأمر …

الكلمات…
توالت  بعد النظرة-القدر، و  إن بصعوبة بادىء الأمر ، فقط  للوصف و التعبير و تخليق هذه اللحظة و الشعور…لهذا حين مات الشعور، ماتت الكلمات

الكلمات …
تآلية على اللحظات المفصلية أو سآبقة لها و إن بثوانٍ ،  
لكنها أبدا لا  تخلقها و لا تتزامن معها….

هل اللغة 
أدآةُُ أم معآنآة

هل اللغة 
محآمٍ أم شبهة

، هَل اللغة 
توأم أَمْ  تهمة

هل اللغة 
صلآةُُ  أم لعنة

هل اللغة 
عذآبُُ أم متعة

هل اللغة  
عبد أَم سلطان  
، هل اللغة مَلآكُُ أم شيطان

هل،  و هل ، و هل…؟؟؟؟
لآ يمكن الجزم في هكذا أمر بهذه السهولة و الأريحية
لكن الأكيد أن…

اللغة 
خلقت 
لتصف  لآ لتعوض

ولدت
 لِتكشِف لآ لتلد

اللغة 
ولدت خالة
 و ليست أم 

اللغة 
شاطىء
و ليست يم

أيتها…
 الكلمات
لَكِ كل الجثت 
و  كل الحطام
  وَ لَكِ كل الرفات
و كل الأوهام

لَكِ…
الأمس القديم البعيد
وَ لَكِ الغد الجديد المديد

اعزفي…
   أيتها الكلمات 
 خرير الذكريات ولو همسة
 و رددي رنين الأمنيات ولو خلسة

أمّآ…
  اللحظة و اليوم
فهما لي أنا و الكون

هما…
للفرح و الجرح
و للنصر و الوصل  و النجم

هما …
للغرق في اليم 
 بِدُونِ وعظٍ أو لوم

و هما 
للدموع 
و الضحك و الدم 

***

في تلك اللحظة ، في ذلك اليوم…
سالت دموع  بِدُونِ بكاء ، لاحت جراح بدون عناء

إن الفراق الهائل الجارح له شعِيرَتُهُ ، و قدسيته ، و خشوعه…

إنه الإعتراف ليس فقط بأن الإنسان ضعيف و محكوم بقدرة فوقية و أقدار عُلْوِية…

بل هو إثباتُُ…
 بأن المرء في بحار النورانية و الكمال و الترقي
 قد جَدَّفَ و سبح،  و إن جُرِفَ و جُرِح،

و أن المرء في سماوات العشق و الجمال و التجلي 
و إن هَوَى و غَرِق، فقد حآم  و حَلَّق                          

****

إن مجاهدة الكمال هي الكمال  نفسه
و مروادة الجمال هي الجمال عينه

و إن حَلَّقَ المرءُ مع النجم و هوى، 
و إن سبح المرءُ عكس المَوْجِ وَ انطوى…

فلا تثريب عليه، بل طوبى له، 
لقد حدق في قرص الشمس…
و استعذب و استجلب 
كل شلال الضياء المنهمر منه ساعة الهجير…

لقد حدق في قرص الشمس…
لقد نفد إلى قطر الشمس…
 لقد صار  ، الشمس…

خالد صابر 

دبلن، ١١ نوفمبر ٢٠٢١






Share To: