حين يُقال : إنّ الفقيه يُوقع عن ربّ العالمين.

فإنّ هذه الكلمة إن لم نفهمها على أنّها مجازٌ لُغوي ؛ وإلاّ فإنّ فيها مبالغة شديدة في توصيف وظيفة المفتي أو الفقيه.

إنّ ما يُوقّع فيه المفتي عن ربّ العالمين ويعتقد أنّ الله أراده هو ما يتعلق بمُحكمات العقيدة ، وأصول الإسلام الكبرى ، ومسائل الفقه القطعية.

أمّا المسائل الظنيّة فإنّها مسائل اجتهاديّة تقوم على الظن ، والظن في ذلك معمول به ، وليس صحيحاً أنّ الظن لا يُبتنى عليه الحكم الفقهي فهذا قول أهل الأوهام ؛ بل إنّ غلبة الظن معمول بها في الفقه ؛ وهي ليست من قبيل التخرص والشكوك ؛ بل من قبيل ما يُشابه اليقين وإن لم يُجزم بكونه يقيناً إذ الظنّ تغليب الراجح على المرجوح.

🌴نعود إلى ما سبق ذكره بشأن التوقيع عن رب العالمين ؛ وهو ما عقد الإمام ابن القيم الكلام حوله فقال :

 " وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنكرُ فضله ، ولا يُجهلُ قدره ، وهو من أعلى المراتب السَّنِيَّات ، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات ؟ ".

🌴ومن قبله الإمام ابن الصلاح حيث قال : 

" أثبت للعلماء خصيصة فاقوا بها سائر الأمة وما هم بصدده من أمر الفتوى يوضح تحققهم بذلك للمستوضح ، لذلك قيل في الفتيا إنها توقيع عن الله تبارك وتعالى".

إنّ توقيع الفقيه عن ربّ العالمين يمكن اعتباره في المسائل القطعية أو الإجماعية التي - هذا إن صحّت فيها حكاية الإجماع - فكثير مما يُحكى فيه الإجماع ليس كذلك.

أمّا أن يُقال إنّ الفقيه أو المفتي بفتياه يُوقّع عن ربّ العالمين فإنّ في ذلك ادّعاء أنّ هذا القول هو مراد ربّ العالمين أو قوله ؛ وهذا لا يُمكن الجزم به إلا فيما تحدثنا به من قطعيات المسائل الاعتقادية والفقهية والأخلاقية.

تبقى مسائل كثيرة جداً ؛ هي من قبيل الاجتهاد الممدوح ، والذي يُثاب عليه صاحبه بالأجرين أن أصاب ، وبالأجر إن أخطأ ؛ لكن لا يمكن ادّعاء أنّه يوقع عن ربّ العالمين فيما أخطأ به ؛ أو أنّه ناطقٌ عن الله ، أو ناطقٌ عن الشرع ؛ لأنّ المرء لا يدري أصاب في اجتهاده مراد الله أو لا .

 ومن هنا نفهم حديث بريدة في صحيح الإمام مسلم وفيه أنّه صلى الله عليه وسلم قال :

 " وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا ".

إنّ فتوى المجتهد أو قول الفقيه في المسائل إنّما هي كشّاف عن القول الصحيح فيما يجتهد به المرء ويعتقده ؛ ولكنّها ليست هي الشرع ذاته.

🌴وللإمام الشاطبي كلمة قريبة من مراد الإمام ابن القيم ؛ إذ يرى أن المفتي قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو خليفته ووارثه ، وأنه نائب عنه في تبليغ الأحكام .

🌴وفي هذا يقول الشاطبي في الموافقات: 

"فإذا بلغ الإنسان مبلغاً فهم من الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة وفي كل باب من أبوابها ، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله".

🌴ويقول كذلك :

 " وعلى الجملة فالمفتي مخبر عن الله كالنبي ، وموقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره كالنبي ، ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخلافة كالنبي ، ولذلك سموا أولي الأمر".

🌴ومثله القرافي حيث يقول : 

" والمفتي لم أعلم فيه خلافاً أنه يكفي فيه شبه الواحد لأنه ناقل عن الله تعالى لخلقه كالراوي للسنة ؛ ولأنه وارث للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم يكفي وحده وكذلك وارثه ".

🌴ماذا يُريد الأئمة ابن الصلاح و ابن القيم والشاطبي والقرافي بقولهم ؟

يريد الإمام ابن القيم تهويل الموضوع وتخويف من يتصدى لمنصب الإفتاء لئلا يأتي أحدٌ فيزعم الإفتاء والقول بأنّ هذا الحكم الشرعي هو ما يُوافق مراد رب العالمين ؛ لكنّه لا يدري خطورة قوله التي تصدر منه حين يتساهل في إطلاق الحكم .

🌴فيريد ابن القيم أن يُخبره أنّ كلامه هنا هو كلامٌ في الدين والكلام في الدين ليس كالكلام في غيره ؛ لأنّ المجتهد حين يتحدث فيه فإنّما يجتهد ليكشف للناس حكم الشرع في ذلك.

🌴وجديرٌ بالذكر أنّ الإمام ابن القيم يعلم تمام العلم الفرق بين كونِ الحكم المنصوص عليه القطعي الدلالة ، وما هو معلومٌ من الدين بالضرورة ، والحكم الظني الاجتهادي الذي يقوم الفقيه بإصداره بعد استخدامه أدوات الاجتهاد.

🌴ومثلُه كلام القرافي والشاطبي إذ إنهما يريدان أنّ قول النبي لا يمكن أن يكون قوله غيره مثله ؛ لكن قول غيره إذا بلغ درجة الإفتاء والاجتهاد فإنّ فتواه مُنزّلة منزلة قول النبي صلى الله عليه وسلم وليست هي من قول النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً.

إذن فليس مرادهم أنّهم حملة الأختام الإلهية؛ وأنّهم متحدّثون عن الله ؛ وأنّهم أوصياء الحكم الإلهي ؛ بل يرون أنّ المفتي مجتهد برأيه فيما يُبلّغ به عن الحكم الشرعي ، فكأنّ ذلك توقيعٌ عن ربّ العالمين ؛ من باب مراقبته وخشيته فيما يُبلّغون عنه في أحكام الشرع ؛ ولا ينسبون قولهم لله بل بالاجتهاد الذي أراهم الله إيّاه ؛ ويعلمون أنّهم قد يخطؤون في اجتهادهم كذلك.






Share To: