الآن اعود بمخيلتي الى الطفولة وأسير في كل زواياها بحثا عن شيء ما،عن ذكرى لاسرق الابتسامة من الزمن وأفرح قليلا وانا بين ركام من الاحزان التي يتخبط فيها كل الكهلة فقط بكثرة التفكير واغترابهم عن هذا الوجود الشاب: كنت أقطن في قرية منعزلة بعض الشيء عن المدينة،ونحن أطفال ندهب كل يوم الاحد الى الغابة ونصطاد العصافير او الحمام،كل طير يطير امامنا اذا تمكنا من إسقاطه أرضا نفرح فرحا لا مثيل له،كنا نحتفل بالنصر-اننا أصطدنا طيرا،نحن ماهرون في الصيد-هكذا كانت صيحات الاطفال من هنا وهناك،لكن لم نكن نصطاد ببندقية او ما قارب ذلك،كان الصيد لدينا يعتمد على قوس والرماح فقط.
في احدى الايام جاء الى القرية ابن أخ العم رشيد وهو جارنا في المسكن،ولما قررنا الذهاب الى الصيد كعادتنا قرر الذهاب معنا ولم نرفض،فمنحته قوسا قديم بعض الشيء لا استعمله،أما الرماح سنقتسم ما في حوزتي لانني لا املك رماح إضافية،...لما وصلنا إلى عمق الغابة بدأنا نصطنع الضجيج لتحاول الطيور الفرار،وهي تفعل سنصطادها،لكن الصديق الجديد لم يكن يأبه بالطيور البتة مما كان سبب في سخريتنا منه،اذ نقول له:اه الصيد للرجال الشجعاع،وانت لا تحاول كالجبان،.الا انه كان لا يهتم لسخريتنا منه،وذلك يزج بنا في بحر من الملل.
في لحظة فجأة وجدناه يلقي بحجرة في بقعة من الاشجار الخشنة،وتوقفنا عن الحركة لنتابع المشهد،معتقدين انه لن يجني ظيرا من ذلك وحينها سنسخر منه أكثر،وللاسف كانت النتيجة أننا فشلنا في ذلك،بحيث بعد لحظة وجيزة جدا قفزة ازنب من تلك الاشجار،وفي سرعة وخبرة اعد قوسه حتى نحن الصيادون الماهرون لا نجهزه في تلك السرعة،وأطلق سهمه،وقبل ان يدرك احد منا ما جرى ذهب والتقط ارنب مطروحا في الارض،وعندئد تغير لون وجوهنا خجلا واحمرت أشد الاحمرار،اذ في كل صيدنا الطويلة لم نصطاد ارنبا البتة...
كنت طفلا صغيرا، في أكثر تقدير كنت أبلغ العام التاسع من عمري، وقد اخبرتنا المعلمة ذات يوم بحيث كنت أدرس في الصف الثالث على ما أذكر، وقالت لنا بأنه من واجبنا الإحتفال بعيد الأم مع امهاتنا لأن ذلك يشعر الأمهات والعائلة جميعها بسعادة عارمة، فلا أحد يكره أن يكون نصب اهتمام أحد آخر ولذلك يجب علينا أن نظهر اهتمامنا بأمهاتنا، هذا ما كانت الاستاذة شرحت لنا بالكثير من التفصيل.
اذن كنت سأذهب لأشكر أمي عن حبها لي الغير المشروط، وعن تعبها من أجلي، لكن لم أكن أملك ما أهديه لها، ولحسن الحظ كنت من محب الافلام وطالما قد رأيت في هذه الأفلام ان الانسان يفرح اشد الفرح حينما يهدي له احد ما باقة ورد ،فكرت حينها ان اشتري باقة ورد لأمي من النقود التي زودتني بهم لأتناول وجبة خفيفة بعد الدراسة.
كنا أطفالا وكل واحد منا قد فكر بطريقة معينة لينفد تعاليم المعلمة الجليلة، وبعض الأطفال الذين ما عرفوا ماذا يفعلون تجمعوا في حلقة تكاد تكون دائرية وتبادلون الآراء ويحاولون إيجاد حل ما يمكنهم من بلوغ الهدف، لكن بالنسبة الي كانت الفكرة واضحة كالشمس ولا تحتاج الى الكثير من التفكير. وها انا قادم على تنفيذها دون أية مشاكل تذكر.
لقد اشتريت الورد كما كنت خططت لذلك، وها أنا أسير على محاذاة الطريق المؤدي إلى البيت وأنا أخمن فيما أذا كنت قد أنجح في ادخال شيء من البهجة والسرور الى عائلتي، وكنت متفائلا طالما أن المعلمة كانت متيقنة من ذلك. لكنها لا تعرف ظروف كل عائلة ،فهنا يمكننا القول إنها تتحدث من الفراغ ،وإن لم يكن فراغ تام الكمال فهو يحمل شيء من اللبس واللامنطقية. لكن استسلمت واعتبرت الحق مع معلمتي فأنا في كل الأحوال لن أقدر على التفكير أحسن منها ولا بحكمة أبلغ من حكمتها.
يا ترى لو كانت المعلمة تعلم أن أبي وحش بشري يخاصمني على أبسط الأخطاء، ويخاصم أمي كذلك إن حاولت الدفاع عني وقد يصل الأمر الى العنف الجسدي، وكم كان ذلك يؤلم بقلبي ويحز في نفسي لدرجة إني أفكر في ان هذا العالم كله لا يستحق أن يوجد ،لو كان كذلك اي غير موجود لما عنفني أبي ولما عنف أمي ولما حزنت أنا او اي شخص آخر. لكن في تلك الفترة كنت صغير السن ولم تكن هذه الأفكار واضحة بهذا القدر، بل كانت غامضة أشد الغموض ولا اقدر ان أخبر بها أحد.
على كل الأحوال وأنا أقترب من بيتي المقدس حامل في يديا باقة ورد ،شارد الذهن فيما يمكن أن يحدث او لا يحدث بين ضرب غفير من الإحتمالات المتراكمة واحدة تلو الأخرى. صادفت رجل سمين بعض الشيء ويرافقه طفل صغير كذلك، وعلى ما اتضح لي أن الأب اذ غالبا هو ابوه، كان منزعجا من ذاك الطفل وبما انهما كانا يتجهان في ذات الاتجاه لم اتمكن من رؤية الطفل اذا كان يبكي ام لا، ولم يطول الأمر حتى رأيت الأب يصفع الولد الى سقط على الأرض كحشرة مسكينة يدوسها وحش ضخم الجسد كالفيل. وذلك بعد ان نظر الطفل لأبيه الذي يفوقه طولا، اذ ربما أخبره بشيء ما او حاول الدفاع عن نفسه. وثم يساعده على النهوض ،وانا اعتقدت انه شعر بشيء من الندم، لكن فجأة يفند اعتقادي ذاك بلكم الطفل الصغير الى ان يدحرج أمامه كانه ليس بإنسان ولا بشر ،كانه حيوان نتن ،بل شيء آخر فحتى الحيوان جريمة ان يعامل بهذه الطريقة. فلم تسعفني مشاعري من متابعة المشهد ولذلك اسرعت في خطواتي لابتعد عنهما أكثر.
وأنا استمر في المشيء وقبل ان اصل الى المنزل صدفت رجلا آخر وإبته ، هذه المرة الصغير كان طفلة والاب على اعتقدت كتن فقيرا وربما عامل نظافة حسب ما استنتجته من ملابسه. لكنه كان راقيا جدا لأبعد الحدود اذا فتح نوع من الحلوى وأخرجها من غلافها وقدمها لإبنته وهي مسرورة مبتهجة. حينما رأيت ذلك المشهد النقيض للسابق ابتهج فلبي كذلك، وتمنيت من كل أعماق قلبي لو كنت إبنه وأخ لتلك الفتاة الصغيرة. ستكون هناك أيام مشرقة أمامنا، لكن للأسف لا أحد ينال مل يتمناه.
ذهبت اسرع بخطواتي الى أن وقفت أمامه ،وبدأ ينظر إلي في شيء من الإستغراب. وحينها سألته:
-هل المعلمون الذي يدرسوننا في المدارس فقراء؟. لكن لاحظت حالة عدم الفهم، مما جعلني ان اسأله بطريقة أخرى.
-هل الاغنياء فقط الذين يعنفون أبناءهم؟
حينها ابتسم ونظر إلي بشيء من الاستفسار لكنه لم ينطق بشيء من ذلك القبيل. كما أن الطفلة الصغيرة التي كانت متأبطة يده نظرت إليه وابتسمت هي الأخرى. وبعد برهة قصيرة جدا استرسل في الحديث قائلا:
-دائما هناك أغنياء وفقراء، لكن ليس الاغنياء هم الذين يملكون المنازل الفخمة أو السيارات الفاخرة . وإنما الأغنياء هم الذين يملكون قلبا رحيما وعطوفا، يعيشون ويعيش معهم الآخر في كل رحب وحب صادق. لهم قيم راقية ومباديء صادقة وإنسانية ،يملكون رؤية تفاؤل اتجاه الحياة وان كانوا لا يملكون مصدر عشاءهم فهم يظلون مبتسمون ومتفائلون ويؤمنون بقدر الله الذي لا بضيع حياة إنسان دون أن يجعلها منبع للكثير من الأشياء الجميلة والطبية.
Post A Comment: