عند نافذة اللغة جلست ابنة المجاز تنسج من الحروف مجموعتها.. هي المرأة الصبارة.. تباركها الفصول.. وتنحني لشوكها آهات الأنين والحنين.. "وقال الصبار ارتويت" مجموعة شعرية تنبض عمقا وجمالا.. للشاعرة المبدعة "حسناء بن نويوة".
استغرقت زمنا تلتحف الصمت.. وفي لحظة وعي سألها الحرف عنها وعنه، فأجابت واثقة: "الشعر أن تتعرى منك.. وتطأ أرضا مليئة بالألغام".
هي التي من كأس الصبر  اغترفت.. شربة  لم تظمأ بعدها أبدا.. هي "المرأة الصبارة" التي عاشت وفية للصورة التي رسمتها روحها.. وهي "التي أجهضت رجلا لم تلتق به قط".
وفي "المواسم الآيلة للسقوط" تستحضر الشاعرة الإندماج الروحي بين "ياني" ومعزوفته الأخيرة.. وبحس فني عال تضيع في لوحات سلفادور دالي".. وتطير مع السريالية إلى واقع لايشبه هذا الواقع..
هي التي اشتهت طريقا لا يعرفها فيه أحد.. هي التي رفضت هذا الواقع ولسانها يردد مع "محمود درويش": "يحاصرني واقع لا أجيد قراءته".. هي "ابنة الليل.. لا اتجاه لها لتغيره.. وهي ابنة الظل تعرف شجرة لم يداعب أغصانها عصفور فحل.. وهي ابنة النثر.. تطل من فصل خامس.. وهي ابنة المجاز لها في اللغة قصيدة ونشيد من شوق ونار".
"حسناء" التي تفتحت أكوانها على إيقاع صوت لايشبه الصوت.. إنه الرنين المزهو.. يزلزل ضواحي القلب.. رعشة مدوخة.. صوت طفل شقي لم يكبر.. هو ماء وهواء.. قارة ثامنة.. دواء للداء.. تهاليل مباركة في العيد.. مخرج في الضيق.. هو صوت لكن إيقاعه كان كافيا ليفتح العوالم الجميلة "لحسناء" الشاعرة.
وفي ،"صور محنطة في ذاكرة المعنى" رسمت الشاعرة وجوها للانبعاث والبلل والرغبة والمطر.. للبرد والشوق والأرق.. للصداع والطريق والغروب والليل.. للرؤى والعبور والحنين.. للغياب والأحجيات.. للوصال والأسئلة والهامش.. تقول في مطلع قصيدتها:
أدق أبواب المجاز
أستظل بالمعنى
أتبصر بالضاد
أدركني من تيه المنحدرات العمياء
أتمرن على قتل ظلي بالكلمات
كلمة كلمة
وأتجلى من انبعاث جديد
و"في مواويل العزلة" وجدتني أسائل النص.. هل العزلة زاوية صغيرة يقف فيها المرء أمام عقله كما قال "دستويفسكي"؟ أم أنها وطن للأرواح المتعبة كما تصورها همنغواي؟ فأجابت "حسناء":
العزلة اختصار
 لما لم نفعله وقت الضجيج
في العزلة
 أحن إلى نفسي القديمة
وفي لحظات كثيرة 
أنسى أنني كنتها
في العزلة
أتدثر بلحاف المجاز
أرتعش فتطير لغتي
إلى شاهق درب
وفي نص "بالشكل الذي أحب" تخرج الشاعرة عن الصورة النمطية التي رسمها المجتمع للمرأة.. وهي البيت المؤثث بالأطفال.. حيث الأنوثة محتضرة والأحلام مختصرة.. المرأة المريدة كما رسمتها "حسناء" بالكلمات هي تلك التي تريد الاحتواء.. الحنان.. المشاركة في الحب والحياة..
وفي "وحيدة المساء" تقاسمت "حسناء" الوحدة مع الشاعرة "أسماء رمرام".. وأبدعتا في نص مشترك يحكي تفاصيل المساء الذي أمطر وحدة..
هذا المساء كنت وحيدة جدا
وبرد غيابك 
يخشخش في عروقي
أتأبط اللغة
أتكتك أصابعي الهشة
فوق لوحة المفاتيح
لأرسم بكلماتي الفاحمة
ما يستحق أحراش العتمة
هذا المساء كنت وحيدة جدا
وفي الوحدة تحولت إلى امرأة سماوية
طيرتني مني
إلى عالم غير آيل للنهب
ودونما ضفاف
دونما ضفاف
أما نص "السمراء"، فأهدته "حسناء"إلى روح الشاعرة "صافية كتو" التي ودعت الحياة قبل أن تودعها.. رحلت وتركت صديقتها القيتارة للذين يحسنون العزف على أوتارها.. تقول "حسناء":
آه يا سمراء
أنت العتيقة كجسر تيليملي
الطفيفة كفرح عابر
أنت المتوارية هناك
ونحن العالقون في نشيج الشعر
وقلق الأسئلة.
وفي "أرتب الوقت بدمي" يتجلى حضور الفوضى التي تبرر الترتيب كما في قولها: "الفوضى تعج بأنفاسي" و"الشعر المركون على الطاولة"..أما الوقت، فيتمظهر من خلال: خشونة الماضي.. أكررني في زحمة أشيائك.. الساعة تزكيني لسقف هش وطول انتظار.. كما يتبدى الوقت من خلال: حكايات الصبر.. البداية والنهاية.. والوجود والعدم.. أما الدم، فمتواري خلف المعنى المقصود الذي ينفتح على  التعدد، حيث يفهم حسب السياق وحسب الاسقاط النفسي للقارىء  من ذلك الحياة.. البقاء.. الوفاء.
كما أبدعت الشاعرة في "نثريات تتمشى فوق قيامات الوقت".. تلف الوقت بكفن الرحيل بعد أن أنهكها الانتظار.. وحزن طال واستطال.. حيث تقول:
عند عتبة
كل لقاء مؤجل
يحتضر الوقت انتظارا
يطرق الوقت بابي
الساعة لا تخطىء حقيقتي
أعرف حزنا طويلا جدا
لم يذهب بعيدا
فقط بكى كثيرا كثيرا
على قيامات الوقت
هذا بعض من كل.. ولاتزال المجموعة تخفي من الجماليات ما سترسمه القراءات الجادة في  تذكرة أخيرة.. وأحبني أكثر..   لو.. الظمأ.. كان في القلب عابر يشبهك.. بطريقة ما..  للقلب ميلاد آخر.. أكواريوم.. مريض هو الناي.. للتراب أغفر امتدادي.. الظل.. الوقت العابر دونك.. نزلة برد نزلة حنين.. غثيان.. أشياء ليست تقال.. أشياء عالقة في لجة الغياب.. يوم مزاجي.. حينما اكتمل نصاب الجرح.. الجمعة.. على عتبة الشعر.. الكتابة.. إلى البياض أمتثل.. إلى شاعر.. من لك غيرك.. ليل مقلوب على آخره.. ظل معقوف القامة.. إضاءات..
"وقال الصبار ارتويت" مجموعة شعرية كتبت بمداد القلب.. تفتح العين الثالثة للقارىء على قراءة ما بين السطور.. وتستفز الوعي للبحث في ما وراء النص.. أما الشذرات التي ختمت بها "حسناء" مجموعتها، فتجليات لرؤيتها للوجود والحياة ومعايشة لتفاصيل اختزلتها الشاعرة في كلمات قابلة للإسقاط والتأويل..






Share To: