لا شك أن الطفولة عالمٌ جميل جدا ً بكل تفاصيله، فهي ما نشتاق اليه عندما نكبر ونحلم بأن يكون سعيداً لأطفال اليوم خصوصاً في الوضع الحالي في مختلف أنحاء العالم، ولكن عالمهم الفسيح النقي تغير اليوم كثيراً، فبعيداً عن المشاكل الإقتصادية وتغير المجتمع وصعوبات التربية وانشغال الأهل في توفير متطلبات المعيشة، وحتى مع افتراض توفر الأساسيات بشكلٍ معقول وبذل الوالدين لجهدٍ كبير مابين العمل والحياة الأسرية يظل هناك متطلبات إنسانية بعيدة عن الماديات تتمثل في المشاركة الوجدانية التي تختصر في عنوان ٍ عريض تنضوي تحته كل المعاني وهو (فهم احتياجات الطفل)..
فالطفل اليوم يتواجد في عالمٍ مناقض في كل شيء لما كبرنا عليه، يغلب عليه الطابع الإستهلاكي والنزعة المادية الفردية التي تميل نحو الإنعزالية في مرحلةٍ متطورة سيحكي التاريخ عنها لاحقاً كتوابع للعولمة..
فظواهر كثيرة بين من يراها سلبيةً أو إيجابية كاللعب في الشارع، أو الحرص على القراءة من الكتب وليس من الأجهزة الإلكترونية الذكية كما هو اليوم، عدا عن تبعات التعليم عن بعد والتي ألغت كل تواصل ونشاط حقيقي للطفل مع أقرانه ومحيطه ومع الحياة ككل بعد تفشي جائحة الكورونا، وغياب الألعاب التي تعتمد على التفكير والجهد البدني في ظل الإكتفاء بالألعاب الحديثة، ويمتد ذلك حتى إلى أفلام الرسوم المتحركة التي تحولت بشكل جذري، فأصبحت خاوية بلا معنى أو هدف وتخلو من المشاعر الإنسانية والجماليات حتى على صعيد الصورة، وأصبحت أشكال الدمى والشخصيات المرعبة شائعة ً كشكلٍ من أشكال الترسيخ لثقافة القبح بعد الترويج لنماذج معينة للجمال على مدار عقود، كما أنه تقريباً لا توجد برامج هادفة للأطفال كتلك التي نشأنا عليها في بلادنا على امتدادها ولم يتم توفير أي بديل لها، فأصبحت في أفضل الأحوال مجرد أعمال (معربة) ولسنا ضدها من حيث المبدأ لإحتواء القليل منها على شكلٍ معقول ومناسب للطفولة دون وجود (حشر) متعمد لأفكار مشبوهة فيها، لكن لماذا نقدم لأطفال بلادنا من أي ثقافة ٍ كانوا سواءاً كانت عربية في الأغلب أو حتى كردية أو أمازيغية أو أرمنية أو تتبع لفئات وأعراق أخرى نماذجاً تصلح للطفل الأوروبي أو طفلٍ يعيش في دولة اسكندنافية؟ ولماذا لا نقوم بإنتاج أعمال تشبهنا وتشبه أطفالنا واحتياجاتهم؟ ولماذا تعتمد الكثير من المواقع الإلكترونية والمنصات على التعريب بدلاً من خلق نموذج من الواقع للأطفال؟ ولماذا أصحاب المبادرات الخاصة بالطفل أو الكثير من الكتاب الذين يكتبون له في حالة انفصال عن ما نعيشه؟ فيستنسخون تجارب من الغرب أو يتبنون طرقاً كانت جيدة منذ ثلاثين عاما ً محاولين تطبيقها على أطفال اليوم وهو ما لن ينجح مطلقاً..
فالكثير من الأطفال حالياً يتابع مسلسلات وبرامج وأفلام للكبار ولديه جهاز ذكي مفتوح على العالم ويعرف في سن الخامسة أضعاف ما كنا نعرفه في العاشرة وربما أكثر، كما أنه بات أكثر تطلباً ويحمل الكثير من التطلعات التي لا تناسب سنه وقد لا تناسب ثقافة عائلته وقدراتهم المادية ووضعهم الإجتماعي وحتى وعيهم، مما يزيد الفجوة بين أطفال اليوم وأهلهم من جهة، كما يزيدها مع المجتمع الذي يكبرون فيه في حالة من الغربة التي لا يد لهم فيها لأنهم أطفال..
وينسى الكثير من العاملين في الأعمال المتصلة بالطفولة ونشاطاتها وأدبها أن أسلوب التوجيه والمباشرة والذي انتهى على الأقل منذ نحو عشرين عاما ً يلاقى من طفل اليوم بالتجاهل، عدا عن أنه أصبح واعياً ولا يتأثر ببعض الأساليب العاطفية ولا يمكن تحويل عمل للطفل إلى (ميلودراما) أو ضخ مفاهيم كبرى فيه، كما لا يمكننا أيضاً الإكتفاء بتقديم حكايات ساذجة اعتقاداً منا أننا (ننزل إلى مستوى تفكيره)، بل نحن من علينا أن نصعد إلى مرحلته ونواكب تطوره ونفهم شخصيته كونها باتت أكثر تعقيداً، بالتعاون مع علماء النفس والإجتماع والإطلاع على مختلف التجارب لزيادة إدراكنا وليس استنساخها، لنحاول الخروج بنتيجة من كل هذه العوامل قادرة على استيعاب عالم الطفل ومشكلاته وتناقضاته الكثيرة..
الى جانب ربطه بلغته وثقافته الأم قبل ربطه بثقافات ولغات أخرى لأن هذا الجزء البالغ الأهمية في تكوينه سيكون له أثر كبير على تشكل قيمه في الحياة وتعامله مع بيئته، فيمكننا أن نعطيه كلماتٍ ومصطلحاتٍ هامة ليطور لغته وأدواته لكن دون استخدام الصعب منها، لأن الهدف هو تعليم الطفل وتطويره وتشكيل وجدانه بشكل صحيح وزيادة حصيلة إنجازه بتوازن دقيق في عمل يجذبه ويشبهه بالضرورة..
فعالم الأطفال أكثر من مجرد أشكال مبهجة وحيوانات سعيدة وألوان فاقعة وردات فعل مبالغ فيها باتت محل انتقاد الطفل نفسه، فهذا العالم يركض متسارع الخطى أضعاف عالم الكبار وعلينا الإختيار بين مواكبته لنحظى بتأشيرة دخول إليه أو خسارته وهو مالا نتمناه بكل تأكيد..
Post A Comment: