للحياة دهاليز كثيرة وذئاب تضحك وأسود تبتسم وقبل ذلك طرقٌ يفترشها اللون القرمزي تحسبه وردًا أحمر ولكنها دماء سبقك البعض عليها، عندما يكون الموت هو السبيل الأوحد، والفرار هو طريق نجاة محفوف بالمخاطر، ضبابٌ كثيف يغطي الأمكنة، رائحة الدماء تغرقك حد الثمالة، حفلًا صاخب، متاهات متعرجة كخُطى الكنتور. 

لم يكن سوى متهورًا متسرعًا في حق ذاته، لا يسمع لحديث أحد شيبًا أو شبابًا، ينصت لصوته دون مبالاة للرأي الآخر. 
ذات يومٍ غير العادة وفي غرفة بالية متغايرة الألوان وذات سقف متهالك، جلس بجانب الشرفة على كرسي يضع قدم فوق أخرى، يحتسى كوبًا من القهوة اللذيذة، يستنشق هواء تلوث بدخان سجائره التي تشكلت غيومًا فوق رأسه يكاد يلامسه بأنامله؛ من فرط التدخين في تلك السانحة، يفكر ويرسم ملامح مستقبلًا باهتًا مُبهمًا يتهيأ له، يلتفتَ يمنةً ويسارًا ليلقي نظره على هاتفه الذي يستقر فوق منضدة زجاجية بجواره، هاتفه الذي بات صديق له مذ غدرهُ أصدقاءهُ وصار وحيدًا، يلتقطه لبدء تجوله في تطبيقاته وتفحصهم واحد تلو الآخر، صار هذا شغله الشاغل منذ أيام عدت سواسية، يُداهم تطبيق "فيس بوك" لينال حقه من التصفح هو أيضًا، في أوج تنقلاته يلمح إعلانًا بخطوطٍ عريضة في آخر الأخبار؛ لوظيفة سكرتير لعيادة ذات شروط مستوفية له في منطقة نائية ليست بالقريبة، ولكن حقه في طلب الرزق جعله يُقنع نفسه بأنها قريبة، دوّن الرقم الذي كُتب في نهاية ذاك الإعلان بمذكرته الخاصة. 

استشار واحد واثنان وقبل إبداء الراي منهما؛ أقر بالذهاب، غادر قبل أن يفكر ملياً أو يستنكر ما يحدث، لّعل راتب أغراه أو شيء من ذاك القبيل. 

في مخيلته سؤالًا أشبه بأن تكون دافعًا له.. 

"ما بال المشبوهين والخارقين للقانون، ألا يحق لهم الصحة وأن ينعموا برغد العافية؟" 

سؤال طرحهُ على نفسه قبل أن يُرسل اتصال من هاتفه ليجيبه أحد من الجانب الآخر، بأن الوظيفة ما زالت متوفرة وعليه اللحاق بها قبل ضياعها، ليحسم أمره ويجهز نفسه للذهاب على الفور. 

لم يدرك أن في رأيه ربما لقاء هتفًا أو راحة دائمة، لم يعلم أن القدر وضع عنوانًا آخر لحياته المتبعثرة، 
طَبع في ذهنه أن المغادرة صارت حتميةً، بسرعة وبغير أن يفقه ما يحدث بدأ ترحاله. 
في طريقه حَلمُ أحلامًا مليئة بالبهجة كقوس قزح، 
قادته قدماه لمنطقة وعرة، في البدء صحراء قاحلة ثم وجوه متغايرة ودهاليز متعرجة متداخلة كخرائط الجغرافيا، مذ خطوه بتلك المنطقة؛ مشاهدٌ متفرقة مزعجة في ذات اللحظة؛ حركاتٌ عشوائية ودراجات هوائية يقودها الصغار، مياه راكدة متسخة، رجالٌ يبتاعون الحبوب المخدرة وآخرون يغرزون الإبر ببعضهم البعض، فتاة تصرخ في أخرى، أطفال يركضون و ألفاظ تتناقل من امرأة لأخرى، أصوات الباعة والحيوانات، رائحة التبغ والدجاج، روائح الطعام من نوافذ المطابخ، خليطٌ من الأشياء في وهلة واحدة. 
سرت قشعريرة بجسده كأن ماء بارد سُكب عليه، ارتعشت فرائصه خفيةً ولكن حاجته للعمل كانت أكثر من أن يعود بأدراجه للوراء، أخذ يضغط أزرار هاتفه مجددًا، ثم إرسال اتصال من هاتفه ليجيبه أحدهم مجددًا ويبوح له بمكانه، لسرعة حظه أو سوء عمله؛ كان الموقع في الشارع المقابل له تمامًا. 
"صدح صوت داخله بأن يعود للوراء.. فتقدم نحو الباب" 
أخذ يتقدم رويدًا رويدًا، خارت قواه من جراء ما شاهده، تصبب عرقًا ولكن هيهات للرجوع أن يكون في تلك الثانية، انتصب أمام شقة بعد أن جفف عرقه، ليظهر من خلف بابها رجلٌ مرعبٌ مرحبًا به ودعوة للدخول، أوجس في نفسه خيفة ليعود أدراجه، باغته رجلًا آخر يرحب مجددًا قادم من غرفة ما، يبدو من مظهره أنه الطبيب، تلطخ بالدماء كأنه جزار آتي من الذبحِ بمعطفه الذي يرتديه، قال له بعد أن كشر أنيابه: "مرحب بك يا صديقي لا تخف، العمل بسيط جدًا فقد تدوين أسماء المرضى ثم ترتيب بعض الأوراق، وهناك مساعدة لك إن احتجتها ستنوب عنك في العمل ولكن كل ذلك بعد المعاينة" ، من بين تلك الغرف التي يُخفى ما بداخلها؛ خرجت ماجنة تسير كأنها بنت هوى بتلك الألوان التي اتخذت من وجهها مخضعاً، قرمزية وصفراء وفوق ذلك تربعت كل صفات الفسق والفجور عليها؛ رذيلة تسير على الأرض بفستانها الضيق الشفاف، كعاهرة خلعت النقاب، آتت نحوه لتقرؤوه السلام، زادت رعشة قلبه ورُعبت نفسه، عاد العرق ليملأ جبينه هاربًا إلى تقاسيم وجهه الأخرى، في آنٍ تفحصه لتلك الشخوص؛ يخبره الطبيب أن يرى المكان بنفسه ليعلم مخارجه قبل البدء في العمل، لاح بنظره لغرفة أمامية. 
شخص يقف وآخر قادم من الباب الخلفي له كأنه مريضًا قادم ويغلق الباب خلفه، تلفت يمنةً ويسارًا ليستقر نظره عند نافذة تطل على الطريق العام، وابتسامات من حوله كأنها تلتهمه، كاد أن يجثو على ركبتيه ويصاب بشللٍ مؤقتٍ، تقدم ناحية الغرفة واستسلم لقدره الذي حتمًا سيكون الموت وبيعه أعضاء بشرية من قلبِ وكُلى وغيرها مما هو سيجعل شخصًا أخر ترد الحياة فيه، ثم عدول عن رأيه بعد اقترابه جيدًا ليقفز من

تلك النافذة ويصدم بأرضٍ صلبة، وثب ناهض دون أن يلقى بالًا لتلك الأوجاع التي ألمت به، ليركض مطرزًا الطريق بأرجله، ربما لساعة أو أكثر كان مستمر بركضه بغير أن يفطن لتلك السيارات التي تمر بجانبه، بغتةً لاح بناظره محل بيع صغير على جانب الطريق، توقف لوهلةٍ ليسأل لاهثًا عن تلك المنطقة؛ لتأتيه الإجابة بأنه يحتاج سيارة للذهاب لهناك، أخذ نفسًا عميقًا ونظر لنفسه لنفوده من موت محتم، كان بين قاب قوسين أو أدني من أن يفقد حياته جراء المال. 
تيقن أن التسرع لم يكن يومًا حليفًا لأحد، وبه كاد أن يفقد حياته، نظر أمامه ليلتقط ماء من البائع ليقمع جيوش الظمأ التي غارت عليه من عناء نصبه هذا، عادت تلك السكينة وذاك الهدوء الذي غادراه، ثم أشار لإحدى السيارات لتتوقف واستقلها لتكملة ما تبقى من مسافة وعيناه تشيع تلك البقعة التي بالتأكيد لن يجرؤ أن يعود إليها مجددًا وابتسامة عريضة تزين فاه؛ لحظهِ الذي أوشك أن يؤدي بحياته. 
وصل لغرفته حيث نقطة البداية التي بدأت منها المتاعب وأخذ هاتفه مجددًا وفتح آخر الأخبار ليدوّن على صفحته الشخصية لتظهر في آخر الأخبار: 

"منذ نعومة أظافري استلقيتُ على ظهري وأنا أغمض عينًا وأفتح أخرى، لا أعلم من الذي كان يدغدغني أو يقرصني أو حتى من يهمس ليّ في أذني. 

لا أدرى ماهية الأشياء في حينها، كنت أبتسم لكل من لاحت ليّ ملامحه البريئة، بعضهم يشاكسني والآخر يحملني ويروق بي الأمكنة، كنتُ كأعجوبةٍ صغيرةٍ قابلة للحملِ والتنقل من شخص لآخر، أو كلعبةٍ جديدةٍ جاءت والجميع أراد أن يُحظى بلحظات جميلة يقضيها معها. 
أخبروني أنني كنت طفلٌ مطيع لا أصرخ وأزعج أحد، أنام كثيرًا فظلت عادتي التي أحبها، أخبروني أنني وقعت مرات كثيرة ثم صراخ مميت يدوي في الأرجاء، ثم كبرت وما زلتُ أسقط ولكني أكتم صرخاتي، أكتمها داخلي ولا أجرؤ أن أبوح بها. 
دائمًا ما كنت أعاني من الوحدة، لكني أيقنتُ أن في الوحدة سلام دائم. 

لم أتكلم سريعًا في سنواتي الأولى حيث أنني لست كباقي جيلي، فكنتُ أستمع أكثر مما أتكلم، أفهم ما يُرمى إليّ ثم أشير إيماءة برأسي بالفهم أو لا، جُل عاداتي بقيتْ كما هي إلا هذه، فكنت أتحدث أكثر مما أسمع، أصيب من حولي بالصمم من صوتي، ولكن منذ ذاك الحين فطنت إلى أن الحياة متغايرة وأن بها مواقع لنا وعلينا، قد نصطف اليوم في صفوف المهرجون وغدًا في صفوف المصفقون. 
تعلمت أن العيش خارج الصندوق ليس كداخله، داخله هواء يكاد ينعدم وخارجه هواء يكاد يملأ رئتيك الصغيرتين ولكنني ما زلتُ أتنفسُ الصعداء وأحارب للبقاء على قيد الحياة. 
دائماً ما كنت سائحاً كدرويشٍ باحثٍ عن حب الله بين الصحاري والحارات وبعض الأمكنة التي يزدحم بها الناس، مشتتُ الفكر والعاطفة، أتمايل يمنةً ويسارًا كشراعٍ تتلاعب به الريح دون إرادته، كماءٍ يجري مع التيار دون ما يشتهي وفق توقعاته، كمريضٍ يشكو الأنين ليلًا ويبتسم صباحًا دون أن يخبر أحد تفاصيل ليله القاسي، وجائعٍ يتعفف عن السؤال، هكذا كانت حياتي كالبحر هادئ وكإناءٍ يحترق ما بداخله بحرِ النارِ وبعضٍ مني كرجل قضى عمره في قطب يملأه الثلج، لم أفكر يوماً من أنا ولكن جُل ما أعرفه أنني جئت لأكون خالدٌ في عمق المعاناة حتى الوداع الأخير." 
وضع هاتفه وبدأ موسم شراهة التدخين.




Share To: