في الوقت الذي تجتاح فيه الفوضى قسماً كبيراً من حياة البشر في كل المجتمعات حول العالم فتبدو بمظهرٍ يختلف عن جوهرها، لا زال الإنسان يكافح بصعوبة شديدة لتحقيق جزء من أحلامه على مستوى شخصي و(عاطفي على وجه الخصوص)، بعد إنخفاض سقف توقعاته وسط حالة الإحباط بسبب تردي الوضع الإقتصادي وارتفاع نسبة البطالة وازدياد متطلبات الحياة وتكاليف المعيشة وتطلعات الأفراد وانبهارهم بكل جديد يرونه، والتي أدت إلى جانب عوامل أخرى عديدة إلى تراجع العاطفة أمام المادة وتلاشي العلاقات والصداقات (الحقيقية) بشكل ٍ كبير تدريجياً، مما جعل القلوب في حالة تصحر لا شيء يمكن أن يزرع فيها بعض الأمل سوى الحب لكنه بات أكثر المطالب ندرة ، فيحاول الكثير خلق مساحةٍ له سواءاً أدرك ذلك أم لم يدركه بالطريقة التي يجيدها بغض النظر عن صوابها أو خطأها، كجزء من كينونته و(سعيه للإستقرار) أو كنوع من المجاراة لطبيعة تفكير المجتمع الذي ينظر للشخص المرتبط رجلاً كان أم إمرأة نظرةً مختلفة عن أولئك الذين لم يرتبطوا أياً كانت الأسباب..

وقد اعتدنا خصوصاً في جيلي والأجيال التي سبقتنا على الكثير من الأسئلة حول الإرتباط، والتي تسبقها كثيراً إبتسامة أو نبرة محبة مصطنعة لتغليفها أو تلطيف وقعها على من يتم سؤاله، وتختلف ردات الفعل من شخص لآخر ومن بيئة لأخرى بين صد واضح وصريح وبين اجاباتٍ منمقة، خاصةً وقد أصبحت أغلب العائلات في حالة ٍ من الإنغلاق على ذاتها فلم تعد متقاربة أو تجمع بين أفرادها إلا على فتراتٍ متباعدة في المناسبات والأعياد، وقد لا يحدث ذلك أيضاً رغم أننا في زمن مواقع (التواصل الإجتماعي) التي لا تتعدى علاقات أغلبها الشكليات، لذا كثيراً ما أصبحت هذه الأسئلة محل استهجان وضيق وتململ ويزداد الأمر سوءاً عند طرح أسئلة متعلقة بالوضع الصحي أو الإنجاب..

والمستغرب هو التذرع في هذا الإختراق للخصوصية بالعادات والتقاليد رغم وجودنا في مناخ يحيطنا بكل مظاهر استنساخ النمط الغربي في الحياة ومحاكاته بطريقة غير موجودة في الكثير من دول العالم كما توجد في بلادنا، والذي يصل إلى مرحلة الضغط الإجتماعي (حفاظاً على الأصالة) ولو كان ذلك بطريقة غير مباشرة في ظل التنافس المحموم على المظاهر، وأصبح اختيار شريك الحياة جزءًا من هذه (الواجهة المتحضرة) والتي أصبحت لا تدوم طويلاً أو تستمر شكلياً، فيما يشوب هذه العلاقة الكثير من الفتور والتعاسة، كما تشوبها الخيانة بأنواعها المختلفة ودرجاتها المتفاوتة والتي تظل خيانة دون إيجاد أي اسم آخر لها، وأصبح الناس كجزء من الوضع الذي نعيشه متقبلاً لفكرة الإنفصال أكثر من السابق كما أصبح العديد من الرجال والنساء يعتبرون فكرة الزواج (مجرد تجربة) يمكن دخولها والخروج منها وتكرارها بشكل ٍ روتيني، دون إقامة وزن حقيقي للعاطفة ضمن هذا المشهد العبثي في نفس الوقت الذي يشكي نفس الأشخاص فيه من غيابها..

وقد يبدو كل هذا عادياً أو متوقعاً حتى نصل للنقطة الأكثر أهمية وهي إنجاب الأطفال، والتي تتحول إلى مأساة حقيقية عندما يتعامل الطرفان مع زواجهما على أنها (تجربة) تشملهم وكأن الطفل جزء من الديكورات والإكسسوارات والمظهر العام الذي يتطلب من الناس أن ينجبوا ليستوفوا الشروط في امتحان المجتمع كي يحظى أي شخص بلقب (انسان طبيعي)، فيتم تجاوز الطفل ومصلحته وسعادته واستقراره النفسي والعاطفي بعد أن تم التغاضي عن العاطفة في بداية هذه (التجربة)..

وقد يؤمن الوالدان للطفل أفضل الملابس والطعام، وقد يتعلم في أرقى المدارس الفنون وحسن التصرف والتحدث بلباقة مع إتقان العديد من اللغات، لكن هذا لن يجعله سعيداً أو متوازناً أو مستقراً من الداخل، ويأخذ الموضوع أبعاداً أشد كارثية عندما تحدث هذه الزيجات وما ينتج عنها في أوساط فقيرة أو محدودة الدخل، وينتج عنها طفل يحمل الكثير من المشاكل والضغوطات التي تشكل عقداً تشوه نشأته ونموه وقد ينتج عنها الكثير من السلبيات مستقبلاً والتي نتركها مفتوحة على كل الإحتمالات..

لذا إن كانت مجتمعاتنا عاجزة عن تحديد هويتها بين شرقية تعيش على العادات أو نسخة مشوهة عن الغرب أو خليط بينهما، عليها على الأقل أن تتحلى ببعض المسؤولية وتغير نظرتها ومفاهيمها القاصرة ونظرتها المحدودة، وعليها أن تتعلم احترام خصوصية وضع كل شخص كما تتعلم (الإيتيكيت) وهذا بالمناسبة جزء منه كما تتعلم المفردات الأجنبية وأحدث الموضات القادمة من الخارج لتحظى ببعض التحضر الحقيقي، وعليها أن تتعلم احترام الطفل ونفسيته ومشاعره وحقوقه وتقديمها حتى على الزوجين، لأن الطفل هو المستقبل، فلا يصح أن نقول أن كل الأطفال متشابهون وسيكبرون كما كبرنا (مع التغني بأيام البساطة) فيما نعيش في حالة ٍ من التمسح بكل ماهو غربي، والإنجاب ليس شرطاً أساسياً لإثبات (كمال) الأشخاص، فكثير من الآباء والأمهات لا يتمتع بأي عاطفة تجاه صغارهم ويتصرفون بمنتهى الأنانية، فيما يفيض قلب الكثير من الذين لم ينجبوا بالحب نحو الأطفال وكأنهم عاشوا تجربة الأبوة والأمومة، وحتى أن البعض اختار أن لا ينجب مع عدم وجود ما يمنعه كي لا يقدم على خطوة لا يستطيع أن يفيها حقها أو عدم ايجاده لشريك يصلح لمقاسمته هذه المسؤولية الوجدانية الكبرى، وفي ظل مجتمعات لا تعرف بوصلتها وتتجاهل عاطفتها لصالح الشكليات لا بد من مواجهة الأفكار العقيمة، فقلوب البشر ليست للعابرين ومشاعر الأطفال ليست حقلاً للتجارب أو مادةً للعرض على مواقع التواصل الإجتماعي لملأ نقصٍ في عقول ونفوس والديهم الذين يحولون أقدس الروابط إلى مجرد محتوى فارغ تحت مسمى الحياة العصرية..

خالد جهاد..






Share To: