جلست سلوى بالصف الأول على اليمين في قاعة المحكمة بينما جلس صلاح مقابلها على الشمال، كانت الوجوه عابسة كفت الألسن عن الكلام عندما نظرا لبعضهما في ألم، أما العقول فكانت تتردد عليها الذكريات تؤلمها، تظهرها النظرات الغاضبة المتبادلة فيما بينهما، تصرخ دواخلهم في صمت.
ينادي الحاجب على رقم القضية واسم المدعي والمدعى عليه، ينادي القاضي على سلوى، تتقدم الى المنصة بخطوات ثقيلة وكأن حضورها على غير رغبة منها:
القاضي:
اسمك بالكامل؟
سلوى محمد المهدي
ماهو الضرر الذي وقع عليكي جعلك ترغبين في الطلاق من زوجك السيد، صلاح زين الدين؟
ياسيادة القاضي، تزوجت زوجي هذا منذ خمسة عشر عاما، كان زميل لي في الجامعة، احببته واحبني، كان بالنسبة لي ذلك الشخص قوي البنية، بهي الطلة، حسن المظهر جميل المحيا، لا يمر يوما إلا والتقيته في الجامعة أو خارجها، اعتدت عليه واصبحت لا استطيع الإستغناء عنه، فقد كان يهتم بي ويحدثني ويستمع الي دائما في أي وقت، يفرغ ما في يده ليحكي معي مهما كانت أهمية ما يفعل، احببت فيه اهتمامه بي بعد أن كنت اشعر اني مهمشة في بيت اهلي، وبعد تخرجنا قررنا الزواج. وقع الأهل في حيرة من أمري فأنا من طبقة اجتماعية غنية، أما هو فمن الطبقة متوسطة، لكني لم اعبأ لذلك فكان بالنسبة لي حياتي ومحياي احببت ابتسامته وروحه المليئة بالمرح والحيوية، رأيته يرتدي أفضل الثياب رغم حالته المادية المتوسطة، كان يجمع بين القوة والجمال والمرح.
تسكت سلوى لبعض الوقت تلتفت لصلاح وقد ضرب الصلع نصف رأسه وغزى الشيب ما تبقى من شعره على الجانبين، كان شاحب الوجه نحيفا، بدى كئيبا وكأن قطار الحياة عبر من فوق جسده مرات حتى مزقه ونهش من عظامه.
اكتفت سلوى بتلك النظرة لزوجها التي أحزنتها كثيرا، عادت بها الذكريات ليستحضر عقلها صورة زوجها شابا جميلا مرحا قوي البنية، أكملت في صوت متألم:
أجبرت أهلي على الإرتباط به وتزوجنا ومرت بنا السنة الأولى حلوة هنية، وكرت الأيام صفحاتها، وبعد أعوام شهدته فيها ليس كما عهدته، بات يفقد لياقته شيئا فشيئا، صار لا يهتم بمظهره، لا يبتاع الملابس إلا للضرورة، وبعد أن كان مبتسما ضحوكا، أصبح عابس الوجه مهموما شاردا دائما، وبعد أن كان لا يكف عن الحديث، أصابه الخرس الزوجي، يتكلم عندما ألح عليه في حاجة او أوجه له سؤالا، يُقَطر الكلمات وكأن صنبورا قطعت مياهه وهذه هي اخر قطراته، مللت الحياة معه، قتلت الوحدة المشاعر بداخلي وذبلت العواطف بعد أن فقدت ساقيها وصار الفتور ينسج خيوطه بأرجاء قلوبنا فهجرها الحب بعد ان اصبح غريبا وفقدنا لهفة كل منا للأخر واحتلت البرودة اركان البيت وفقدت جدرانه دفئ المشاعر، وإني لأرى أن الضرر على واقع وأرغب في الطلاق.
القاضي:
صلاح زين الدين،ما قولك في ما تقوله زوجك؟
تقدم صلاح بخطوات ثابتة من المنصة، وقال في صوت قوي متزن:
سيدي القاضي، كنت لا أود الحديث في مثل تلك الأمور التي طالما اخفيتها عن زوجتي وعن الجميع مِن مَن هم حولي، عندما تزوجت من سلوى، كنت شابا غِرا متعجلا، عندما رأيتها أعجبتني بشدة، وكنت اقول لنفسي اني لن اقدر على اسعادها فهي من اسرة غنية وانا من اسرة بسيطة ولكن وجدت منها ميل لي، أغراني ذلك ووجدت نفسي رغبة فيها ولم استطع أبعادها فقررت البوح لها بحبي، رحبت هي وعشنا معا اجمل ايام حياتنا ما بين مدرجات الجامعة وطرقات المدينة وأماكن تجمع العشاق ومن خلال الهاتف في ليالي الشتاء الباردة يدفئها لهيب اشواقنا وليالي الصيف الحارة يرطبها نسيم غرامنا.
ومرت أيام الدراسة سريعة حتى كدنا نرى اليوم مجرد لحظة لا تكفي لأن نعيش ما نتمناه.
وتخرجنا سويا من الجامعة، وكنت لهوفا على العمل حتى اقدر على مواجهة والدها وطلب يدها، وبالفعل حصلت على عمل بمرتب معقول بالنسبة لي، لكن ليس معقولاً بالنسبة لها. وتزوجنا بعد محاولات عدة مع اهلها، الذين كانوا رافضين الزيجة بسبب فرق المستوى الإجتماعي، قالوا أن ابنتهم اعتادت حياة لا استطيع توفيرها لها، لم اصطدم برفضهم لي، بل كنت مستعدا له، وكنت جاهزا لخوض حربا لنيل سلوى ، عهدت نفسي أن اتحدى الجميع واثبت لهم جدارتي بها، ومن يومها وانا بداخلي محارب فقد كنت في في منافسة مع الجميع حولي، وكانت تلك هي بداية النهاية لمشاعر كانت بداخلنا، ليحل محلها المادة.
حل الصمت للحظات التفت فيها صلاح لسلوى الجالسة مكانها تنظر اليه عينيها الدامعة، اكمل صلاح دفاعه عن نفسه:
قررت ان اعمل بكامل طاقتي ليل نهار حتى اكفيها ولا اجعلها تشعر بفارق النقلة من المستوى التي كانت تعيش فيه مع الأهل، وزواجها بي.
أهملت مظهري حتى ابتاع لها اغلى الثياب والحلي، تخليت عن تماريني الرياضية بصالة الجيم حتى أوفر لها ثمن الإشتراك الشهري مع مصمم الشعر باهظ الثمن الذي اعتادته، كنت دائما شارد في التفكير كيف أوفر لها احتياجاتها واحتياجات الأبناء الذين رافقتهم بمدارس لغات خاصة بمصروفات عالية؟ لطالما حاولت أن اجعلها لا تشعر بالفارق بينها وبين ابنة خالتها المتزوجة من رجل اعمال غني وتسافر فرنسا كل صيف، تبتاع ثيابها على احدث موضة وتعلم ابنائها بالمدارس الدولية، تلك القصص والحكايات التي كانت تحكيها لي زوجتي يوميا تشعرني بالضيق وقلة الحيلة وقصر اليد، لطالما كنت تحت ضغط، وقعت بين سندان ارضائها ومطرقة أهلها الذين راهنوا على فشل زيجة ابنتهم بي وسعيت ألهث أثبت لهم إني زوج كفء لها.
خفض صلاح رأسه ونظر للأرض، سقطت دمعة منه دون قصد، أغمض عينيه ووضع يده على وجهه محاولا اخفاء دموعه ثم مسح بكفه على وجهه، وبنبرة حزينة قال:
كنت سعيد بما احققه لها، وكانت دوما تعيسة شاردة الذهن لا تبالي بما افعله من اجلها.
ساد صمت بالقاعة، حاول صلاح لملمة شتات نفسه قبل أن ينظر للقاضي، ارتجفت نبرة صوته و انتابته رغبة في البكاء، قال في انكسار:
ابنائي هم قرة عين لي، ولا أستطيع الإستغناء عنهم، واعلم ان بطلاقها مني يمنحها القانون حق الحضانة، وسوف تعذب نفسي بعد أبنائي عني.
القاضي:
قال سبحانه وتعالى في الآية الكريمة "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة"
فقد بين الله تعالى في هذه الآية أن الأصل في العلاقة بين الزوجين هي المودة والرحمة فبعد أن يفتر كل شئ ويتوقف فيض الحب الجارف ويزول الجمال وتحل الشيبة محل الشباب، والوهن محل العنفوان، وينهك الجسد جراء ماحمل على اعتاقه من مسئولية لسنوات طويلة، ويفتر الشوق وتغمد المشاعر، تأتي هنا المودة والرأفة تحل محل كل ما ذكر، ولتستمر الحياة ويستقر الأبناء داخل أسرة متلاحمة مترابطة فيما بينها.
لذلك قررنا نحن رفض دعوى الطلاق، التي رفعت من السيدة، سلوى محمد المهدي على زوجها صلاح زين الدين وإلزامها بكافة مصروفات الدعوى القضائية.
كانت سلوى تنظر للأرض، مذبذبة بين الفرح والبكاء، عندما التف إليها صلاح ليرى وقع الحكم على وجهها، نظر بملامحها راحة رغم محاولة إظهارها الجمود، ذهب اليها مولعا مشتاقا لنظرة عهدها منها قديما عند اللقاء بعد الخصام وكان بعينه شوقا فبادلته الإبتسام، مد يديه يمسك يدها أحس برجفة بهما، نطقت العيون بما صعب على الألسن حكت اشواق وغرام وذكريات أيام خوالي.
فاطمة حمزة
Post A Comment: