منْ منةِ اللهِ تعالى على عبادهِ ورحمتهِ بهمْ، أنْ نوعَ لهمُ الفصولَ في العامِ الواحدِ بينَ صيفٍ وشتاءٍ وربيعٍ وخريفٍ لتتمَّ بذلكَ مصالحهمْ ويستقيمُ معاشهمْ ويستوي ولأننا في فصلِ الشتاءِ فإننا نقفُ اليومَ بعضَ الوقفاتِ اليسيرةِ حول هذه الأيام .
🌴الوقفةُ الأولى:
إنَّ مجيءَ الشتاءِ وعودتهِ إلينا يعني انقضاءُ عامٍ كاملٍ بفصولهِ المختلفةِ وهذا يشعرنا بضرورةِ تذكرِ المصيرِ المحتومِ والنهايةِ الأكيدةِ التي تصيرُ إليها كلُّ المخلوقاتِ:
﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ ﴾.
[النور:44]
فيا سعادةَ منِ استعدَّ بالخيراتِ وقدمَ أمامهُ الأعمالَ الصالحاتِ، ويا خسارةَ منْ فرطَ في عمرهِ وضاعتْ عليهِ لحظاتُ حياتهِ وقتلَ أوقاتهُ فراحتْ هباءً منثورًا.
ومنِ الوقفاتِ التذكيرُ بأهميةِ أنْ يحفظَ المسلمُ عقيدتهُ سالمةً صافيةً وذلكَ بتجنبِ لعنِ الشتاءِ وسبهِ.
عنْ أبي هريرةَ عنِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ قالَ :
« قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ:، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الأَمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» .
متفق عليه .
والشتاءُ جزءٌ منَ الدهرِ فربما تضررَ منْ جراءِ هذا البردِ سواءٌ في نفسهِ أوْ ولدهِ أوْ زرعهِ فيحصلَ عندئذٍ الوقوعُ في المحذورِ.
ومنَ الوقفاتِ أنَّ هذا البردَ الذي ننزعجُ منهُ أحيانًا أنهُ نفسٌ منْ أنفاسِ جَهَنَّمَ وجزءٌ يسيرٌ جدًّا مما في النارِ منَ العذابِ والنكالِ.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
« اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ :
يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَهْوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ ».
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وما ذاكَ إلا لِتَذْكِيرِ العِبَادِ فِي الدُّنْيَا بِنَارِ الآخِرَةِ لِيَتَّقُوا مَا يُورِدُهُمْ إِيَّاهَا وَيَأْخُذُوا بِأَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنْهَا.
ومنَ الوقفاتِ ما يحصلُ للعبدِ منَ المكارهِ التي تؤذيهِ ويجدُ منها الحرجَ والمشقةَ ففي هذهِ الأيامِ يتأذى منهُ الناسُ منَ الرياحِ الشديدةِ الباردةِ التي تُنغِّصُ عليهمْ حياتهمْ وتفسدُ معاشهمْ فربما تركَ العاملُ عملهُ ومصدرَ رزقهِ بسببِ هذا البردِ الشديدِ.
فإنَّ الشتاءَ إذا حضرَ اندحرتِ الحيواناتُ في جحورها ونفضتِ الأشجارُ ورقها ولزمَ الناسُ بيوتهمْ يطلبونَ الدفئَ والسكونَ .
ومنَ المكارهِ ما يحصلُ منَ الجهدِ والمشقةِ عندَ حضورِ صلاةِ الجماعةِ خصوصًا صلاةُ الفجرِ فالمصلي يحتاجُ إلى عزيمةٍ قويةٍ لمفارقةِ دفءِ الفراشِ وقطعِ لذةِ النومِ واستغراقهِ وهذا واللهِ منَ التوفيقِ والإكرامِ للعبدِ.
وَإِذَا اسْتَحْضَرَ المُؤْمِنُ هَذِهِ الْكَرَامَةَ الْعَظِيمَةَ لَهُ عِنْدَ اللَّـهِ تَعَالَى هَانَتْ عَلَيْهِ مَكَارِهُ الْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ وبُرُودَةِ المَاءِ ونَزْعِ الْأَلْبِسَةِ الثَّقِيلَةِ وَحَسْرِ الْأَكْمَامِ وَاسْتِيعَابِ الْأَعْضَاءِ بِالْغَسْلِ لا سِيَّمَا مَنْ سَكَنُوا الْبَرَارِي أَوْ خَرَجُوا إِلَيْهَا .
ومنَ المكارهِ ما يحصلُ منْ جراءِ هذا البردِ منْ أمراضٍ وعللٍ كنزلاتِ البردِ والزكامِ والحمى ونحوها .
وَهِيَ كَفَّارَاتٌ لِلْعَبْدِ فَلَا يَضْجَرْ بِهَا وَلَا يَشْتَكِ مِنْهَا وَلَا يَتَسَخَّطْ بِسَبَبِهَا .
ففِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ :
«أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ أَوْ أُمِّ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ :
«مَا لَكِ ؟
يَا أُمَّ السَّائِبِ أَوْ يَا أُمَّ الْمُسَيِّبِ تُزَفْزِفِينَ؟
قَالَتْ : الْحُمَّى لَا بَارَكَ اللهُ فِيهَا فَقَالَ :
«لَا تَسُبِّي الْحُمَّى ، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ
ومنْ مكارههِ كذلكَ كثرةُ النفقةِ منَ اللباسِ ووسائلِ التدفئةِ ونحوها حيثُ أنَّ توفيرَ هذهِ الأشياءِ منَ الحاجاتِ الملحةِ والنفقةِ على الأهلِ أعظمَ أجرًا منْ جميعِ الصدقاتِ .
فعنْ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ :
قالَ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ :
«دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ» .
رواه مسلم.
أيضاً علينا مواساةُ الفقراءِ والمحتاجينَ، وبذلُ الإحسانِ لهمْ ، وذلكَ أنَّ فصلَ الشتاءِ يحتاجُ إلى مؤونةً كثيرةُ منْ طعامٍ وكساءٍ، فيعجزُ الفقراءُ والمساكينُ عنْ تحصيلِ هذهِ المؤونةِ.
انَّ الشتاءَ أقبلَ علينا ببردهِ ومطرهِ وطولِ ليلهِ وقصرِ نهارهِ مما يجعلُ المرءُ يتساءلُ كيفَ يكونُ اجتهادهُ في عبادةِ ربهِ؟ وكيفَ يمكنُ للمسلمِ أنْ يستثمرَّ أيامَ الشتاءِ ولياليهِ في جني أكبرِ قدرٍ منَ الحسناتِ.
ففي الشتاءِ يقصرُ النهارُ فيسهلُ عندئذٍ الصيامُ منْ غيرِ مشقةٍ تلحقهُ أوْ كلفةٍ تحصلُ لهُ منْ جوعٍ أوْ عطشٍ وذلكَ لقصرِ نهارهِ معَ برودةِ الجوِّ فيهِ ومنْ ثمَّ فلا يحسُّ الصائمُ فيهِ بمشقةِ الصيامِ التي يحسها في أيامِ الصيفِ.
فهذا ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ كانَ يقولُ إذا دخلَ الشتاءُ :
"مرحبًا بالشتاءِ تنزلُ فيهِ البركةُ يطولُ فيهِ الليلُ للقيامِ ويقصرُ فيهِ النهارُ للصيامِ .
أما ليلُ الشتاءِ؛ فلطولهِ كانَ فرصةٌ ثمينةٌ للقيامِ والتهجدِ والدعاءِ والاستغفارِ حيثُ يتسنى للبدنِ أنْ يأخذَ حظهُ الوافي منَ النومِ ثمَّ يقومُ بعدَ ذلكَ إلى الصلاةِ فيناجي ربهُ ويدعوهُ.
ولعلَّ هذا أحدُ أسبابِ بكاءِ معاذِ بنْ جبلٍ فإنهُ لما حضرتهُ الوفاةُ جعلَ يبكي واشتدَّ بكاؤهُ فقيلَ لهُ : ما يبكيكَ ؟
قالَ : "إنما أبكي على ظمإِ الهواجرِ وقيامِ ليلِ الشتاءِ ومزاحمةِ العلماءِ بالركبِ عندَ حلقِ الذكرِ".
في هذهِ الأيامِ ينبغي أخذُ الأهبةِ لهذا الفصلِ منَ العامِ واتقاءُ بردهِ وأخذُ الحيطةِ في ذلكَ والاستعدادُ لهُ بأنواعِ الملابسِ والمدافئِ والأطعمةِ وهذا منْ بابِ الأخذِ بالأسبابِ التي هيأها المولى سبحانهُ لنا وأنعمَ بها علينا .
روى ابنُ المباركِ أنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يَتَعَاهَدُ رَعِيَّتَهُ إِذَا حَضَرَ الشِّتَاءُ وَيَكْتُبُ لَهُمْ قَائِلًا :
"إِنَّ الشِّتَاءَ قَدْ حَضَرَ وَهُوَ عَدُوٌّ فَتَأَهَّبُوا لَهُ أُهْبَتَهُ مِنَ الصُّوفِ وَالخِفَافِ وَالجَوَارِبِ وَاتَّخِذُوا الصُّوفَ شِعَارًا وَدِثَارًا فَإِنَّ البَرْدَ عَدُوٌّ سَرِيعٌ دُخُولُهُ بَعِيدٌ خُرُوجُهُ .
وذلكَ منْ تمامِ نصحهِ وحسنِ نظرهِ وشفقتهِ على رعيتهِ رضيَ اللهُ عنهُ.
إنَّ مِنْ كَمَالِ نَعِيمِ أَهْلِ الجَنَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ فِيهَا حَرًّا وَلَا بَرْدًا .
قَالَ قَتَادَةُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى :
"عَلِمَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ شِدَّةَ الحَرِّ تُؤْذِي وَشِدَّةَ البَرْدِ تُؤْذِي فَوَقَاهُمْ أَذَاهُمَا جَمِيعًا :
﴿ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا ﴾
[الإنسان:13].
نسألُ اللهَ تعالى أنْ يحييَ قلوبنا بذكرهِ وأفئدتنا بمعرفتهِ وأبداننا بطاعتهِ، وأنْ يغيثَ نفوسنا باليقينِ والإيمانِ.
Post A Comment: