هنا تغدو المسافة بين ما يقوله المثقف وما يمارسه شاسعة الرؤى وبحكم فقر تقاليدنا الثقافية والدمار والخراب الروحي والفكري الذي حل بمثقفنا خلال سنوات التلفيق والتشتت التي اعقبت الانقلابات الفكرية وتأزم الموقف الثقافي والأدبي بشكل عام وعدم وجود الشروط المادية الأولية في نشوء ثقافة ثورية مستفضية بفعل عدم تكامل صيرورة الجدل الفكري الصحيح بين اطراف الطبقات الإجتماعية وضياع الطبقة الفاعلة في المجتمع وهي الطبقة النخبوية المؤثرة التي عملت ضمن سلسلة التعقيدات السياسية بين هذا الحزب وذاك . وبما ان المجتمع الحديث قد عجز عن السيطرة لذا اصبحت الابجديات في جمود فكري مضمحل وباتت في هشاشة ، واصبحت ابجديتها في اطار الاستبداد ، وبالتالي اضحت الثقافة المسماة بالثورية تصنع في مراكز محو الأمية ومدارس واكاديميات المال ما يمكن تسميته بالثقافة التلقينية المختومة بطابع الإيمان السابقة للمعرفة ، واقول معقباٌ ان لهذه الثقافة تموت فيها الصورة الحية التي هي التعبير الناجز عن الحقيقة والممارسة ، لا تثق بالنتيجة المتلازمة . وتبرز الصورة التقريرية الرسمية سواء في العلم او الفكر او الأدب .. لقد مارست هذه الثقافة وصايا حصرية على الآخرين ، وبخاصة على المثقفين غير المتعاملين رسميا ، فاستخدمت الطرق الموافقة لها لتمهيد الطريق والأسس لإيجاد ثقافة سطحية, محددة ، وكما ان لدى الشخص المعين قوة المحركة لأفعاله - الدافع - التي لابد ان تمر في ذهنه وتتحول الى - فعل - او محركات لإرادته ، كذلك الأمر بالنسبة لثقافة الرسمية فأن جميع النتاجات ينبغي ان تمر بأراده الدولة المتزنة التي فرضت نفسها وصياً شمولياً . وهذا هو الجانب الذي يجعلنا نفهم لماذا اصبحت نقابات الكتاب والأدباء والجرائد والمجلات ووزارة الثقافة او الإعلام ، تكايا للمبتدأيين والباحثين عن النشر ومكافآته.
وقد يعترض معترض عن طرح المسألة لهذا الشكل ، ويتهمنا بالعمومية والتجريد الشديد ، فهو يرى كما لو ان هناك بعض الاستثناءات . والواقع انه هناك استثناءات عدة ، بيد ان المسائل كما يقال لا تؤخذ بجماعها ( والواقع ان اللحمة الاساسية للثقافة منسوجة من العلاقات والتفاعلات بين مصالح الطبقات ذاتها ) .
المثقف العربي في درجة معينة من المواقف التزم وضعه في خانة المصالح والغايات تاركاً غذاءه الصحيح في معطيات وحيثيات الضرورة وكأنه جنيناً يبحث عن مشيمة اخرى ، صحيح ان الفكر لا ينفصل عن مادة الحياة ، ولا يبقى معلقاً في الهواء ، لأنه يستمد من التجارب الإتصال بالتاريخ وبالمطالب اليومية للناس ، الا انه صحيح ايضاً ان تجاوز فترات التاريخ وتعاقب الحوادث ، وجعل الأخيرة تتلو بعضها الى ما لانهاية ، هو منتهى انفصال الفكر عن عثراته وأخطائه . ووقوع في الفكرانية اللا ادارية ومساواة بين الوعي واللاوعي . ( لقد استطال الزمن اللاوعي وما نزال لحد بعيد فيه ) . ان العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع ، الوعي والمادة ، واعتبار التاريخ والمجتمع جدلاً لا ينقطع ، هي مهمة الوعي وقاعدته ، وايجابية المثقف تنبع من المساهمة في تعميق الوعي في عملية التطور عن طريق كشفهم عن الظروف الموضوعية ووقوفه وجه الاستبداد والاستحواذ السلطوي الدكتاتوري ، الثقافي الذي يريده المثقفون الرسميون وبذلك يعطي الانسان إمكانية التحرر الفعلي . فماذا فعل المثقف المعاصر الرسمي ازاء ذلك . انه ادرك ضرورة التجنيد قلمه للحكام والمصالح والمكاسب النفعية ، من خلال سعيه لخدمتهم ، فساهم في مصادر الحرية . والحرية هي وثيقة اتصال بالموقف ، واعطاء للمصالحة الشخصية مصوغات فرضياته التي ينادي بها ، فالصحفي والشاعر والكاتب والأديب الضالع في اللعبة معزول جماهيرا ونفسياً وفكرياً عن الشعب . وتشير اليه أصابع الإتهام بالخيانة والتواطؤ ، وفي اقل الفروض بالمحسوبية ، اما الآن ،
وفي عهود التحرر والاستقلال والديمقراطية والشعارات المبرزة تصنف الأمور كما يلي ( الملتزم ، الصديق ، الحليف ، المناضل ، الموهوب ، الوجه الادبي ... الخ ) وعليه فان تطور الوعي ينكشف في مسألة واحدة ، هي الحقيقة ، ولما كانت تلك الحقيقة مفقودة ، بل ضائعة. يصبح الوعي اداة زور او ينعزل . لكل مالم ينشر في الصحف والمجلات الرسمية والغير رسمية ومواقع التواصل الاجتماعي هو معزول قهراً وجبراً ، وكل من لم يصفق في الجوقة ولا يساهم في الواقع الظاهري على السطح ، او الواقع الباطني "اعمال خاصة" لا يستطيع ان يكشف وعيه وبالتالي يعزل عن الممارسة ، فيسقط شاء ام ابى في حجره بالقدر الذي تحدث فيه التناقضات داخل البنية السلطوية والبنية الاقتصادية ، تبرز على السطح بالقدر نفسه تبرز المبررات لدى المثقفين ضمن لعبة اتقان مقولات جاهزة مسبقة ( نسخ ولصق ) . وكأن العوامل السياسية والإقتصادية والإجتماعية عمياء حتى في قانون التطور العام..؟ ومن بين ما يحدث نجد اعداد لا تحصى من الصدف الظاهرة لبروز هذا واختفاء ذاك ..
إن هؤلاء الذين يفعلون هم حصرا اصحاب الذوات المستفيدين الذين يتمتعون بوعي ما يعملون ، اما الذين يقلدون لهدف مطلوب غير سامي انياً وحياتياً ، ويجهلون دوافع الاخرين اصحاب المصالح والمتربعين على كراسي الحكم ، فهم النافخون والمصورون ، الذين يرطنون بالعوامل القانونية للتاريخ ، ويمارسون تجاهلاً مطلقاً عنها . واذا كان من الطبيعي ان يكون المثقف قريبا من الحركة الثورية وملتزمآ بها احياناً والى هامشها احياناً اخرى ، ومشاركاً لها بالجهد والعمل ، وممارساً للنقد والنقد الذاتي ، ومنعطفاً ازاء الشعب والطبقة العاملة مهما كان هذا الانعطاف اولياً او غائماً ، فانه ليس طبيعياً ( ذاك القدر الكبير من السلبية الذي دفع الحركة فكرية ككل في تبعيتها للواقع ، الذيلية لحركة الواقع احياناً ) وفي انعزالها الضيق لبعض الاحيان الاخرى . هذه السلبية صبغت الثقافة العربية المعاصرة بشتى الصفات غير الايجابية والثورية ، والتي جعلتها تدور في حلقات مفرغة من التفكير ونقده بعيداً عن الممارسة العملية وعن الصراع الاجتماعي .
Post A Comment: