الكاتب د. علي حسن الروبي يكتب مقالًا تحت عنوان "كن مسلماً على مراد الله لا على مرادك" 


تحدثنا في مقالة سابقة عن ظاهرة المسلم المتحفظ على بعض شرائع الإسلام، ونتكلم في هذه المقالة عن ظاهرة أخرى مشابهة لتلك الظاهرة، ألا وهي ظاهرة المسلم الذي يقرأ بعض الأحكام الشرعية قراءة تناسب هواه وميوله الفكرية والنفسية، فيُخرج الحرام من دائرته إلى دائرة المباح، ويُخرج المباح من دائرته إلى دائرة الحرام بالتأويل الفاسد جدا الذي لا يستند إلى أي مناطات علمية شرعية معتبرة، اللهم إلا القراءة الحداثية العلمانية للنصوص الشرعية.

أصحاب هذه الظاهرة هم كأصحاب الظاهرة التي تكلمنا عنها في المقالة السابقة، من ضحايا الفكر الغربي والثقافة الأوربية، الخاضعين لقيمها وميزانها فيما يتعلق بالحقوق والحريات والمساواة.

فينظر أحدهم- مثلا- إلى حكم شرعي يتعلق بقوامة الرجل على زوجته أو امتلاكه حق الطلاق دونها، فيزعم أنه منافٍ للعدل والمساواة، والله منزه عن الظلم والجور لا محالة، وعليه؛ فلا بد أن تكون النصوص الواردة في قوامة الرجل على المرأة خاصة بزمن التنزيل فحسب وليس بزماننا الذي حصلت المرأة فيه على حقوقها وحققت المساواة مع الرجل!

وقل مثل ذلك في كل الأحكام الشرعية التي لها تماس وتناص مع ما مِن شأنه الارتباط بقضايا الحقوق والحريات الفردية، فلا أسهل على أحدهم من أن يأتي إلى حكم شرعي وقع الإجماع عليه واتفق عليه علماء المسلمين قرنا بعد قرن، ويدعي أن فيه اعتداءً على الحريات الشخصية أو الحقوق العامة، أو فيه وحشية وقسوة على الإنسان، ومن ثم فهو مخالف للرحمة الإلهية أو للعدل الإلهي، فلا بد ألا يكون هذا هو حكم الله وشرعه، ولا يمكن أن يصدر مثله عن الإله الرحيم العدل! ثم يعمد إلى تأويل النصوص الواردة في ذلك تأويلاً قبيحاً لا يمت بأدنى إلى الطريقة العلمية المعتبرة في التعامل مع النصوص الشرعية.

وما أسهل أن تردد ألسنة هؤلاء: إن الله يتنزه أن يأمر بمثل هذا الجور! أو : إنني لا أعبد رباً يأمر بمثل هذه القسوة أو التمييز بين الناس على أساس ديني!

وفي واقع الواقع فهؤلاء ما يعبدون إلا أنفسهم وأهواءهم، ويصوِّرون أحكام الله تعالى على مقتضى ذلك، بل ويتصورون ما يليق بالله تعالى وما لا يليق به= وَفق ما في مخيلتهم وعقولهم عنه، وذلك أعني- ما في عقولهم وأفكارهم- خاضع كل الخضوع للقيم الغربية فيما له تعلق بالحقوق والحريات والمساواة، وما ينبغي أن يسوغ من ذلك وما ينبغي أن يمنع.

إنه لحقٌّ على مَن يدعي أنه آمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ رسولاً= أن يكون تعامله مع أوامر ربه وأحكامه، تعامل عبدٍ مربوب مع إلهٍ خالق ٍ مدبرٍ، فتكون قيمه العليا ومُثُله وجميع ثوابته الفكرية والأخلاقية تابعة لما جاء من عند الله تبارك وتعالى، ، ممتثلاً في ذلك قول ربه تبارك وتعالى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) } [النساء: 65] ومستجيباً لما جاء في الحديث المجمع على صحة معناه وإن اختلف في صحة سنده : ( لا يؤمن أحدُكم حتى يكون هواه تَبَعَاً لما جئتُ به).

ومن المعلوم أن وظيفة العبد مع سيده هي طاعة أوامره واجتناب نواهيه، لا مناقشة هذه الأوامر والنواهي والانتقاء منها، وقبول ما يظهر للعبد فيه حكمة لها معنى واضح في عقل العبد وإطراح ما سوى ذلك ونبذِه!

إن إيمان الإنسان بالله تعالى رباً وخالقاً لهذا الكون = يوجب وجوباً عقلياً إيمان هذا الإنسان بأن ربه تعالى له صفات الكمال في كل شيء ، وإلا ما استحق أن يكون هو الإله المستوجب للعبادة والطاعة، وإذا كان الكمال متوجباً في هذا الإله العظيم الخالق؛ فينتج عن ذلك كمال ما يصدر عنه من أوامر ونواهٍ؛ لأنه لما كان له كمال العلم والحكمة والإحاطة= كان لزاماً أن يكون ما اشترعه لعباده هو الغاية في بابه، وأنه أكمل وأفضل وأكثر اتساقاً من تشريع البشر لأنفسهم؛ لأنه غير جائز أن يكون النقص والقصور والعجز مستولياً على البشر ثم تكون تشريعاتهم لأنفسهم أكثر حكمة ورأفة ورحمة ومصلحة من تشريع رب البشر للبشر.

فكيف يسوغ لمن يزعمون أنهم قد آمنوا بأن الله تعالى هو ربهم الأعلى وخالقهم الذي له صفات الكمال والجلال، أن يحكِّموا عقولهم وأنظارهم فيما قد شرعه الله تعالى، وما أنزله من أحكام، فما لم يعجب عقولهم القاصرة وأنظارهم القصيرة= زعموا أنه مما ينبغي أن يتنزه الإله الخالق عن تشريعه وأنه لا بد أن يكون مكذوباً، يحدث هذا منهم- أعني ادعاء الكذب في النص المفيد للحكم- إذا كان الحكم الشرعي مصدره الأحاديث النبوية، وإما أن كان مصدره القرآن فإنهم يعملون على تفريغه من مضمونه ومعناه وحملِه على وجوه لا تسوِّغها اللغة ولا قواعد العلم الضابطة للاستنباط، كل ذلك لظنهم الخاطئ وزعمهم الكاذب أن ما تضمنه الحكم الشرعي مخالف لحكم العقل أو مقتضى العدل !

وكما قلنا، فإن هذا الصنف من المنتسبين للإسلام لا يصدرون في هذا المسلك الضال عن مستندٍ شرعي أو حتى نظر عقلي سليم؛ فإن النظر العقلي الصحيح لن يتعارض مع النقل الشرعي الصادق، لكن مستندهم هو الهوى الإنساني الحائد عن لازم الشرع ومقتضى العقل، الجانح إلى تغليف الشهوة البشرية والضعف الإنساني بالحق الطبيعي.

ذلك الهوى والقصور الإنساني الكامن في منظومة الحقوق والحريات بمفهومها الغربي التي تُتَّخذ أساساً وميزاناً لما هو حقٌّ وعدلٌ ولما هو ظلمٌ وجورٌ، ولما هو مساواةٌ ولما هو تمييز.

تلكم المنظومة التي استقاها واضعوها الغربيون من فكرة تقديس الإنسان وحقوقه دون النظر إلى تقديس رب الإنسان وحقه على الإنسان.

تلكم المنظومة التي بناها واضعوها بالنظر إلى الحياة الدنيا ومصالحها فحسب، دون أي التفات ولا اعتبار للحياة الآخرة، وما ينشأ عن اعتبارها من تغيير كبير في ماهية الحقوق والحريات.

تلكم المنظومة التي يمَّمَ بعض المنتسبين للإسلام وجهَه شطرها وجعلها معياره الحاكم على الخير والشر والحق والباطل، فإذا وجد في الشرع الحنيف ما يتعارض معها- وهو ما زال في قلبه ميلٌ للإسلام – بادر إلى ما جاء في الشرع الحنيف وقال إنه ليس من الإسلام ولا من أحكام الإسلام؛ لأن الله تعالى لا يأمر إلا بالعدل والمساواة، وهذا الحكم مخالف لذلك، فلا جرم أنه ليس من عند الله !

يتعامى هؤلاء عن حقيقة ما يؤمنون به – إن كانوا مؤمنين بالفعل- وهو أن هذه الأحكام الإسلامية من لَدُن حكيمٍ خبيرٍ عليمٍ بما يَصلح للإنسان وبما يُصلحه وبما فيه منفعته ومصلحته وبما فيه مضرته ومفسدته، بينما المنظومة القيمية الغربية للحقوق والحريات التي يجعلونها قدس الأقداس = إنما هي من نتاجٍ فكريٍّ بشريٍّ قاصرٍ عاجزٍ غير خالٍ من الهوى الإنساني!

وبعد، فأنت أيها العبد المسلم الراجي لقاء ربه في الآخرة= فلتعلم أن وظيفتك هي عبودية الله تعالى والتسليم له والعيش على مقتضى أحكامه ومنهاج شريعته، منها تأخذ الحلال والحرام والحقوق والواجبات والمشروع والممنوع، وبها تعرف المقدس وغير المقدس والمصان والمهان والمعتبر وغير المعتبر في سائر أعراف الناس وأفكارهم ومنهاجهم وأطروحاتهم وأيديولوجياتهم، فتعرض كل النظريات والأفكار والمناهج على أحكام الله وشرعه فتأخذ منها ما وافق شريعة الله وترفض ما عارضها، ولا تعرض شرع الله وأحكامه على أي من تلك النظريات كما يفعل أولئك المنهزمون المنسحقون الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً.










Share To: