فضيلة الشيخ أحمد علي تركي مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف يكتب "الاحتفال برأس السنة" 


لا ينكرُ أحدٌ إلا الجاهل أن الاحتفال برأس السنة يُصاحبه الرقص دائمًا سواء أكان ذلك الاحتفال مرتبطًا بمناسبةٍ دينيةٍ أم دنيويةٍ وسواء أكانت السنةُ المُحْتَفَلُ بها قمريةً أم شمسيةً .

 فالرقص دائمًا كان العاملُ المشترك بين كل تلك الاحتفالات سواء أكان رقصًا فنيًّا أم شهوانيًّا أم دينيًا تعبديًّا مثل حلقات الذكر ونحوه .

 وعلى أية حالٍ فهذا ليس موضوع هذه المقالة؛ إنما موضوعها عن رقصٍ من نوع آخر ، فالسنة الميلادية تتميز بأنها سنة لولبية مطاطية لا ترتبط بدايتها أو نهايتها بظاهرة جغرافية ولا فلكية ولا بمناسبة دينية .

وقد كانت عند الرومان تتكون من ثلاثمئة يوم تضم عشرة أشهر قبل أن يضيفوا إليها شهرين، ثم كانت 365 يومًا قبل أن يضيفوا إليها رُبْعَ يومٍ ثم إنها كانت تبدأ في يوم يوافق الآن 25 مارس قبل أن ينقلونها إلى 25 ديسمبر لتستقر أخيرًا في أول يناير الذي يوافق عند الكنيسة القبطية الآن يوم 12 يناير .

 ولو كان هناك شيء من العقل لجعلوا السنة تبدأ في يوم 21 مارس بداية فصل الربيع ، ولجعلوا ذلك اليوم هو أول مارس ثم يبدؤون العَدَّ من بعده .

 والسؤال الأساسي في هذه المقالة هو لماذا أول يناير ومتى اعتُبر أول يناير هو رأس السنة؟

لا يتميز الإنسان عن سائر الحيوانات بالتفكير أو النُّطق كما يزعم البعض ، فهناك حيوانات تفكر ، وأخرى تنطق ، ولكن الإنسان يتميز بأنه "حيوانٌ مؤرخٌ" قادرٌ على رصد التواريخ واختلاف الأزمان والتعلم من التجارب الحياتية ونقلها إلى الأجيال اللاحقة .

ويقوم التأريخُ المُمَيِّزُ للإنسان عن سائر الحيوانات على التقويم ، ولا نعرف أول شعب استخدم التقويم .

ولكن الواضح أن أول ما عرفه الإنسان من التقويم هو (اليوم) المرتبط بحركة الشمس : 

نهار يعقبه ليل، ثم عرف الشهر المرتبط بحركة القمر، أما مصطلح العام فاختراع مصري أصيل. 

فالمعلوم أن المصريين القدماء هم أول من قسم السنة إلى اثني عشر شهرًا عن الطريق الربط بين ظاهرة فلكية تحدث كل شهر (دورات القمر) مع حدثٍ جغرافيٍّ يحدث كل عام (فيضان النيل) الذي يأتي كل اثنتي عشرةَ دورةً قمريةً تقريبًا .

كان ذلك في العام 4242 قبل ميلاد المسيح عليه السلام .

 لكن بداية السنة عندهم دائمًا كانت في أول شهر (توت) الذي حمل اسم إله الكتابة والحكمة عندهم حيث كان يهلُّ هلالُهُ مع مجيء الفيضان في أواخر فصل الصيف .

ولكن السنة القمرية ليست مثالية فهي تتكون من 354 وثماني ساعات في المتوسط .

ولذلك وجد المصريون بعد فترة أن هلال شهر توت القمري يتزحزح متقدمًا عن موعد الفيضان ، فعدَّلوا التقويم وأضافوا شهرًا ثالث عشر يضم خمسة أيامٍ أسموه (النسيء) لكي تعتدل السنة الفلكية مع الظاهرة الجغرافية .

ثم انتقلوا إلى التقويم الشمس بعد تقدمهم في رصد منازل الشمس وأبراجها . 

ولكن التقويم الشمسي كذلك لم يكن مثاليًّا لأن السنة الشمسية تتكون من 365 يوما وست ساعات تقريبًا ، وهكذا كان شهر توت الشمسي يتقدم ربع يوم كل عام.

 لكن لم يسجل التاريخ احتفال المصريين بالعام الجديد ، ويُعتقد أن التسجيل الأول للاحتفال بالعام الجديد كان في بلاد ما بين النهرين حوالي 2000 قبل الميلاد. 

حيث كان العام عندهم يبدأ في وقت قريب من الاعتدال الربيعي ، حوالي 20 مارس. 

وفي الوقت نفسه ، بدأ المصريون القدماء والفينيقيون والفرس عامهم الجديد مع الاعتدال الخريفي في 20 سبتمبر تقريبًا .

 أما اليونانيون القدماء فاحتفلوا برأس السنة عند الانقلاب الشتوي ، حوالي 20 ديسمبر.

لما جاء الرومان بعد أكثر من ثلاثة آلاف عام وضعوا تقويمًا من عشرة أشهر ، وكانت السنة عندهم تبدأ بشهر المريخ (مارس) إله الحرب عندهم وفي أوله يُنَصَّب القناصل المنتخبون بعد أن يؤدوا يمين الولاء .

 وتنتهي السنة بشهر (ديسمبر) الذي ترجمته الحرفية من اللاتينية "الشهر العاشر" ثم عندما أدركوا أن هناك بالفعل اثنتي عشرة دورةً قمريةً في السنة .

قام الملك الروماني نوما بُمْبِلْيوس (حكم روما خلال الفترة من 715 إلى 673 قبل ميلاد المسيح عليه السلام) بمراجعة التقويم الروماني ، فأضاف شهرين جديدين هما يناير وفبراير .

وربط الأشهر بحركة القمر فكل شهر إما 29 يوما أو 30 يومًا .

 ويكون مجموع أيام السنة 354 يومًا (السنة القمرية) ولكن لكي لا يحدث تقديم وترحيل للأعياد والمناسبات أمر بإضافة شهر ثالث عشر كل عامين يتكون من 22 يومًا لتعويض فارق الأحد عشر يومًا بين السنة القمرية والشمسية. 

وقد حمل يناير اسم الإله (يانوس) إله البوابات والبدايات ، ويرمز له بتمثال ذي وجهين ينظر أحدهما إلى الماضي بينما يطل الآخر على المستقبل ؛ ولذا كان من الطبيعي أن يجعلوه في أول السنة ، وهكذا رحَّلوا الشهور بعد يناير وفبراير ، فأصبح مارس هو الشهر الثالث .

 وأصبح الشهر العاشر هو الثاني عشر بالرغم من احتفاظه باسمه (العدد) القديم .

وأصبح القناصل ينصبون في مطلع يناير.

وأصبح التقويم الروماني يبدأ من سنة 753 ق.م وهي تأسيس مدينة روما عاصمة الإمبراطورية.

سار الرومان على التقويم المصري مع احتفاظهم بأسماء الشهور الرومانية .

 ولكن هذا التقويم عبث به الكهنة والقياصرة ، فجعلوا بعض الشهور التي سُميت على أسماء قياصرتهم 31 يومًا على حساب الشهور الأخرى .

 ومن ناحية أخرى كان التقويم المصري المستند عليه التقويم الروماني ينقص ربع يوم كل عام وبحلول زمن الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر ظهر جليًّا اختلاف التقويم مع مواعيد الزراعة وعدم موافقة الأعياد الرومانية لمواعيدها الفلكية .

 نتيجةً لتقدم الشهر الأول من السنة (توت المصري/ يناير الروماني) ربع يوم كل عام، فأمر يوليو قيصر بمراجعة (التقويم الروماني) مرةً ثانية، وكلَّف أحد أشهر علماء الفلك المصريين وهو سُوسِجِنِس بتلك المهمة فاقترح عليه إضافة يوم إلى أحد الشهور كل أربع سنوات.

وبداية من سنة 45 قبل ميلاد المسيح عليه السلام أمر يوليوس قيصر بإضافة يومٍ كل أربع سنوات إلى شهر فبراير الذي كان قد اغتصب منه يومًا أضافه إلى شهر (كُوِنْتِليوس) أي الشهر الخامس والذي حمل اسم (يوليوس) الذي أصبح يتكون من 31 يومًا بينما كان شهر (سِكِسْتِلِس) أي السادس قد أخذ من فبراير يومًا آخر قبل أن يحمل اسم (أغسطس) فيما بعد ويأخذ ترتيب الثامن في الأشهر الرومانية. 

وبذلك أصبح فبراير في الأصل 28 يومًا ويُضاف إليه يوم كل أربع سنوات .

 وأصبح هذا التقويم يُعرف باسم (التقويم اليولياني) نسبة إلى يوليوس قيصر ، وبدأ العدُّ فيه من سنة تأسيس روما (750 ق.م).

لما وُلد المسيح ابن مريم عليه السلام لم يكن الناس يعرفون أن هذه هي السنة الأولى في التقويم الميلادي (سنة 1م) لأن التقويم وقتها كان مرتبطا بسنوات ولاية الإمبراطور .

 وطبقًا له فقد ولد المسيح في السنة السابعة والعشرين من حُكم قيصر أو سنة 750 من تأسيس روما .

أما التقويم الميلادي فقد وُضع بعد ستمئة سنة من ميلاد المسيح عندما نادى الراهب الإيطالى ديونٍسيوس أُكْسِيْجُس بجعل سنة ميلاد المسيح هي بداية العد، وتغيير اسم التقويم من اليولياني إلى المسيحي أو الميلادي .

 وهكذا تحولت سنة 1286 يوليانية إلى سنة 532 ميلادية . 

لكن الأطرف من ذلك أن المؤرخين يكادون يُجمعون على أن المسيح لم يُولد في سنة 1م، وإنما ولد حوالي سنة 4 قبل الميلاد .

فقد ذكر إنجيل لوقا أن يوحنا المعمدان بدأ دعوته في السنة الخامسة عشرة من حكم الإمبراطور (تيبيريوس قيصر) وأن يسوع قد عُمِّدَ بعد فترة وجيزة وكان عمره ثلاثون عامًا. 

والمعروف أن تيبيريوس تولى حُكم الإمبراطورية الرومانية سنة 11م وبذلك يكون يوحنا قد بدأ دعوته عام 26-27م أي أن المسيح الذي كان عمره وقتها ثلاثين عامًا قد ولد سنة 4ق.م .

 وهذا يتفق مع إنجيلي لوقا ومتى اللذان يذكران بأن المسيح قد ولد في عهد هِرُدِس ملك بيت المقدس، والذي حدَّد معظم الباحثين تاريخ وفاته عام 4-3 قبل الميلاد .

أبقى قيصر على أول يناير كبداية للتقويم ، وكانت احتفالات العام الجديد تشهد عربدةً وسكرًا وموائد ورقص وغير ذلك .

 بيد أن التقويم اليولياني كان سلاحًا رومانيًّا فعالًا في بسط سيادة روما على جميع أنحاء الإمبراطورية حيث استُخدم في كل أرجائها بوصفه رمزًا لسيادة روما وسطوة القيصر .

 ولكن بعد سقوط روما وانتشار المسيحية في جميع أنحاء أوروبا رأت الكنيسةُ أن الاحتفال بالعام الجديد في أول يناير هو عادة وثنية مرتبطة بالعربدة لذلك تم نقل اليوم الأول من العام إلى موعد أكثر قبولًا لدى المسيحيين. 

وطوال العصور الوسطى في أوربا المسيحية كان الاحتفال بالعام الجديد يختلف من مكانٍ لآخر ومن قرنٍ لآخر .

 فتارة يحتفلون ببداية العام في يوم 25 ديسمبر الذي هو يوم ميلاد المسيح .

 وتارة يحتفلون به قبل تسعة أشهر أي في 25 مارس الذي من المفترض أن مريم عليها السلام حملت بالمسيح فيه (عيد البشارة) .

 وتارة أخرى يحتفلون بالعام الجديد في عيد الفصح (عيد القيامة) الذي يأتي في يوم الأحد الأول من شهر أبريل.

لم يكن التقويم اليولياني (الميلادي) مثاليًّا هو الآخر شأنه في ذلك شأن التقويم القمري والتقويم الشمسي المصري الذي أضاف إليه يوليوس قيصر يومًا كل أربع سنوات لسد عجز ربع اليوم الناقص .

 فالحقيقة أن السنة الشمسية لم تكن تتكون من 365 وربع يوم بالضبط ، وإنما كانت تتكون من 365 يومًا وخمس ساعات و49 دقيقة أي أن السنة اليوليانية كانت تنقص إحدى عشرة دقيقة أي تنقص يومًا واحدًا كل 131 سنة تقريبًا .

 ويتقدم 3 أيام كل 393 سنة (مع التقريب تصبح 400 سنة) وعندما وصلنا إلى سنة 1582م أصبحت السنة اليوليانية (الميلادية) متقدمة بنحو عشرة أيام عن موعدها الفلكي. 

وأصبح عيد الفصح وعيد الميلاد وغيره من الأعياد تأتي في غير موعدها وكان البابا غريغوري الثالث عشر قد أصابه الملل من كثرة المراسيم التي يدرها ويحدد فيها موعد الأعياد، فابتكر تقويمًا جديدًا حمل اسمه (التقويم الغريغوري) يقضي بما يلي :

جعل أول يناير هو رأس السنة .

حذف عشرة أيام من التقويم ويصبح يوم 4 أكتوبر 1582 هو يوم 15 أكتوبر 1582م.

يُضاف يوم إلى شهر فبراير كل 4 سنوات وذلك في السنوات التي يقبل رقما الآحاد والعشرات فيها القسمة على 4 تمامًا كما هو الحال في التقويم اليولياني .

يُستثنى من ذلك السنوات المئوية التي لا تقبل القسمة على 400 مثل 1700 ، 1800 ، 1900 ، 2100 ، ..إلخ .

 فتبقى سنوات بسيطة بدون إضافة يوم أما السنوات المئوية القابلة للقسمة على 400 فتكون هي فقط السنوات الكبيسة ، مثل 1600 ، 2000 ، 2400 إلخ.

انتشر التقويم الغريغوري تدريجيًّا ، وخصوصًا في الدول الكاثوليكية ، بيد أن المناطق التي سادت فيها البروتستانتية رفضته ، بل اتهموا البابا بأنه (المسيح الدجال الروماني) الذي يحاول خداعهم للعبادة في الأيام الخاطئة . 

ومع مرور الوقت بدأت الدول البروتستانتية تتحول إلى التقويم الغريغوري ، فتحولت إنجلترا وأيرلندا والمستعمرات البريطانية إليه في عام 1752م .

 ورفضت الكنائس الشرقية التقويم الغريغوري كذلك وما زالت رافضة إلى اليوم ، أما روسيا فتحولت إلى التقويم الغريغوري بعد الثورة البلشفية سنة 1917م .

في الوقت الحاضر انتشر التقويم الغريغوري في معظم بلدان العالم ، حتى الإسلامية منها بوصفه تقويمًا مدنيًّا عالميًّا بينما احتفظت بالتقويم الهجري بوصفه تقويمًا دينيًّا أو رسميًّا هامشيًّا .

 وأصبح أول يناير وفقًا لهذا التقويم هو من بين أكثر العطلات الرسمية شهرة في العالم وغالبًا ما يتم ملاحظتها مع الألعاب النارية في منتصف الليل بعد ليلة رأس السنة الجديدة .

لكن هذا لا يعني أن العديد من دول العالم لا تزال تحتفل برؤوس سنة مختلفة ، حسب الثقافات والانتماءات الدينية والعرقية .

 فالسنة الصينية الجديدة تتبع التقويم القمري وتبدأ بين أواخر يناير وأوائل فبراير .

أما السنة اليهودية الجديدة فتبدأ في سبتمبر في حين أن رأس السنة الهجرية يبدأ في توقيت مختلف كل عام .
🌴خلاصة القول : 

لا يوجد سببٌ فلكيٌّ أو دينيٌّ أو سياسيٌّ للاحتفال بعيد رأس السنة الجديدة في الأول من يناير (كانون الثاني) .

 ولعل هذا هو السبب في أن الاحتفال برأس السنة الميلادية قد أصبح عالميًّا لا يجد فيه شعوب العالم حرجًا ولا مانعًا من الاحتفال به مهما اختلفت ثقافاتهم ودياناتهم وقومياتهم وحكوماتهم .

فضيلة الشيخ أحمد علي تركي مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف يكتب "الاحتفال برأس السنة" 





Share To: