فضيلة الشيخ أحمد علي تركي مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف يكتب "رحلة الإسراء والمعراج الجزء3 و 4"



 


إن رحلة الإسراء والمعراج لم تكن مجرد رحلة تسرية وتسلية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل كانت رحلة تربية وتهذيب لنا، فلعلنا ننتفع بهذه الدروس، ونحيي بها ما اندرس في النفوس.


🌲الدروس المستفادة من رحلة الإسراء والمعراج :


🌵ذكر الله على كل حال:


فى سورة الإسراء بدأت بكلمة " سبحان " فيها التنزيه والتعظيم والإجلال لصاحب هذه المعجزة من ألفها إلى يائها فكانت المعجزة كلها بقدر الله عز وجل، ولكن الأمةَ تتعلم درس التسبيح والتعظيم والتمجيد لله عز وجل فهذا أن دل فإنما يدل على أن تعيش الأمة مسبحه لله ذاكرة لله ؛ أن تعيش الأمة موصولة بذكرها وتسبيحها لله عز وجل ، ولما لا تعيش الأمة مسبحة لربها والكون كله مسبح لله يقول تعالى :


 ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾


 الإسراء 44


🌵شرف العبوديه لله رب العالمين :


يقول المولى سبحانه ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ 


ولماذا لم يقل برسوله أو نبيه أو حبيبه أو خليله ، فلله عز وجل في كونه عبيد وعباد فكلنا عبيد الله الطائع فينا والعاصي والمؤمن فينا والكافر .

ولكن عباد الله هم الذين أخلصوا له فاتحد اختيارهم مع منهج الله سبحانه وتعالى ، ما قال لهم افعلوه فعلوه وما نهاهم عنه انتهوا .


ولذلك عندما يتحدث القرآن عن المخلصين بين خلق الله لا يسميهم عبيد ولكن يسميهم عبادًا يقول تعالى :

 ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ﴾

 

[الفرقان: 63].


والحق قد استخدم كلمة عبده ليلفتنا إلى حقيقتين هامتين :


 الأولى :


أن الإسراء بالروح والجسد ولم يكن منامًا .


الثانية :


والأهم أن الله جل جلاله يريد أن يثبت لنا أن العبوديةَ له هي أسمى المراتب التي يصل إليها الإنسان فالعبودية لله عزة ما بعدها عزة ، وعطاء ما بعده عطاء في سورة الكهف يقول الحق: 


﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾.


إن العبودية لله شرف ، والعبودية للبشرية نقيصة وذلة ؛ لأن السيدَ يريد أن يأخذ خير عبده وأن يجرده من كل حقوقه وماله .


ولكن لله سبحانه وتعالى يعطي بغير حساب فكفى بالمرء عزًا أن يكون عبدًا وكفى به فخرًا أن يكون الله له ربًا .


 ولقد خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيَّا ملكًا أو عبدًا رسولاً فاختار أن يكون عبدًا رسولاً .

وبهذه العبودية وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكانٍ لم يصل إليه ملكٌ مقربٌ ولا نبي مرسل ، بل كان رسول الله يجتهد أن يصل إلى هذه العبودية الحقة بقيامِ الليل حتى تورمت أقدامه فلما أشفقت عليه زوجه عائشة رضي الله عنها وقالت : يا رسول الله هون على نفسك فأنت الذي غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر .

فقال : " يا عائشة أفلا أكون عبدًا شكورًا" .

 

🌵الاطلاع على قدرة الله تعالى :


‏إن القدرة الإلهية التي خلقت هذا الكون الكبير لن تعجز عن حمل بشر إلى عالم السماء وإعادته إلى الأرض في رحلة ربانية معجزة لا يدري كيفيتها بشر .

فالإسراء آية من آيات الله تعالى وهو انتقال عجيب بالقياس إلى مألوف البشر .

فالله يتحكم في الزمن والمكان وهو القادر على كل شئ .


🌵الاطلاع على بدائع صنع الله :


‏عندما يطلع الإنسان على عظمة الله سبحانه ويدرك بديع صنعه ، وعظيم قدرته يثق بنفسه ودينه ويطمئن إلى أنه بإيمانه يكون قد لجأ إلى ركن وثيق لا يختار له إلا الأصلح ، ولا يريد له إلا الخير .

 

🌵مكانة المسجد الأقصى في الإسلام :


للمسجد الأقصى قدسية كبيرة عند المسلمين ارتبطت بعقيدتهم منذ بداية الدعوة فهو يعتبر قبلة الانبياء جميعاً قبل النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهو القبلة الأولى التي صلى إليها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتم تغير القبلة إلى مكة.

وقد توثقت علاقة الإسلام بالمسجد الأقصى ليلة الإسراء والمعراج حيث أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وفيه صلى النبي إماما بالأنبياء ومنه عرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء  وهناك في السماء العليا فرضت عليه الصلاة .


والمسجد الأقصى هو المسجد الثالث الذي تشد إليه الرحال فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إن المساجد الثلاثة الوحيدة التي تشد إليها الرحال هي المسجد الحرام و المسجد النبوي والمسجد الأقصى .


عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :


" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى ". 


صحيح البخاري.


🌵الرسول صلى الله عليه وسلم إماماً للأنبياء والمرسلين :


عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :

" لَقَدْ رَأَيْتُنِى فِى الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِى عَنْ مَسْرَاىَ فَسَأَلَتْنِى عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ قَالَ فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِى أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَا يَسْأَلُونِى عَنْ شَىْءٍ إِلاَّ أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ وَقَدْ رَأَيْتُنِى فِى جَمَاعَةٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّى فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ  عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَائِمٌ يُصَلِّى أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِىُّ وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَائِمٌ يُصَلِّى أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ  يَعْنِى نَفْسَهُ فَحَانَتِ الصَّلاَةُ فَأَمَمْتُهُمْ فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلاَةِ قَالَ قَائِلٌ يَا مُحَمَّدُ هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَبَدَأَنِى بِالسَّلاَمِ ".


صحيح مسلم


وفي هذا دلالات منها أن الإسلام هو كلمة الله الأخيرة إلى خلقه ودليل على عالمية الإسلام وعموم رسالة محمد وأنه حامل لواء الهداية للخلق جميعًا تحمَّلها سيدنا رسول الله بأمانة وقوة وقام بحقها على خير وجه ثم ورَّثها لأمته من بعده وبذلك أصبحت خير أمة أخرجت للناس ومسئولة عن إقامة حُجَّة الله على خلقه جميعًا كما قال تعالى :


﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ 


[البقرة: 143].


🌲أصل الدين واحد وهو التوحيد :


‏إن أنبياء الله ورسله بعثهم الله إلى خلقه ليعرفوهم بالله، وكيف يعبدونه ليُعلموهم أن الله وحده هو المستحق للعبادة قال تعالى : 


﴿ ‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾


 [الأنبياء: 25]. 


وهذا يعني أن رسالة الأنبياء واحدة وأنهم جميعًا إخوة .


وقد أكَّد رسول الله هذه الحقيقة فى قوله عن نبي الله يونس :


أخي كان نبيًّا وأنا نبي" .


 تفسير القرطبي.


وعن أبي هريرة قال :

 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :


أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَالأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ" .


 رواه البخاري


وجاءت ليلة الإسراء والمعراج تؤكد المعنى السابق، فوجدنا أن العبارة التي رددها الأنبياء عليهم السلام ترحيبًا بسيدنا محمد حين استقبلوه في السموات العُلا هي :


مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ .


 رواه البخاري


🌲الإسلام دين الفطرة :


وقد ظهر ذلك في اختيار النبي صلى الله عليه وسلم اللبن على الخمر ، وبشارة جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله :


هُدِيت إلى الفطرة ففي ذلك دلالة على أن الإسلام هو الدين الذي يلبي نوازع الفطرة في توازن بين الروح والجسد ، والمصالح والمفاسد ، والدنيا والآخرة .

فلو أن الفطرة كانت جسما ذا طول وأبعاد، لكان الدين الإسلامي الثوب المفصل على قدره وهذا من أهم أسرار سرعة انتشار الإسلام وإقبال الناس عليه رغم ما يوضع أمامه من عوائق وعقبات قال تعالى :


 ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾


 (الروم: 30)


🌲فضل ومكانة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:


‏حيث صعد به رب العزة والجلالة إلى مكان عظيم لم يبلغه أحد من البشر قبله ، حيث عرج به إلى السموات السبع ، وتخطاهن حتى وصل إلى سدرة المنتهى وكلَّمه رب العزة والجلالة .


🌲انتقال النبى صلى الله عليه وسلم من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين :


وعلم اليقين : بمعنى انه اذا قلنا ان النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الجنة فيها ما لا عين رَأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فنحن نصدقه ولكننا لم نرى شيئاً .


وعندما نرى ما اخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا عين اليقين أي رأيت ذلك المخبر عنه بعينك وذلك كما قال الله تعالى 


﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾


 سورة التكاثر.


🌲أهمية الصلاة ومنزلتها في الإسلام :


وذلك أن الصلاة هي الفريضة الوحيدة التي فرضت ليلة الإسراء والمعراج في السماء السابعة وبدون واسطة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :


ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ : بِمَا أُمِرْتَ قلت : أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ .


قَالَ : إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا . فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ : بِمَ أُمِرْتَ ؟ 

قُلْتُ : أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ .

قَالَ : إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ ، وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ ؛ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ .

قَالَ : سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ .


فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ : أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي" .


البخاري: 3598


🌲الاستفادة من الخبرات السابقة :


‏ويتضح لنا ذلك من خلال استجابة سيدنا رسول الله لنبي الله موسى بالمراجعة في أمر الصلوات : 


وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ فَرَجَعْتُ .


🌲شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الجهر بالحق :


يظهر ذلك في مواجهته صلى الله عليه وسلم للمشركين بأمر تنكره عقولهم فلم يمنعه من الجهر به الخوف من مواجهتهم واستهزائهم فضرب بذلك صلى الله عليه وسلم لأمته أروع الأمثلة في وقوف الحق أمام الباطل وأهله وإن كان هذا الحق غريبا عليهم .



▪️رحلة الإسراء والمعراج 4


🌲الأبعاد الحقيقية للإسراء والمعراج :


لم تكن خطوات النبي صلى الله عليه وسلم في إسراء ومعراجه ضربا من الصدفة ، ولا مرائيه نوعا من التسلية المحضة ، التي لا عظة فيها ولا عبره لها ولا فائدة بل كل شيء تم إنما كان لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى .


لكن أهم ما مر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة ، أمور لها أبعاد سياسية وإجتماعية وروحية بعيدة المدى ومنها :


1- الأبعاد السياسية :


🌵الإسراء به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم العروج به إلى السموات العلى :


"إن قيادة العالم حتى حدوث معجزة الإسراء والمعراج كانت بيد بنى اسرائيل لأن البقية الباقية من الشرائع اليهودية والنصرانية هى ديانات بنى اسرائيل لكن بنى اسرائيل وقتها لم يكونوا أهلاً لهذه القيادة ، فقد عبثوا بالمبادئ وباعوها بأبخس الأثمان ، فضلا عن تحريفهم للكتب وتشوية معالمها النقية بأهوامهم الملوثة ، فلم تبق المبادئ صالحة لقيادة العالم ، ولم يتمسك بنو اسرائيل بمبادئهم الصحيحة ليكملوا مسيرة القيادة" .


🌵تقدم الرسول صلى الله عليه وسلم ليؤم الأنبياء من أول آدم وحتى عيسى :


وإقرار الأنبياء له على ذلك واقتدوا به ، هو تحول سياسي جذرى نزعت به القيادة من أيدى بنى اسرائيل وسلمت للأمة المحمدية .


وهذا دليل على أن الأنبياء سلموا له بالقيادة والريادة وإن شريعة الاسلام نسخت الشرائع السابقة ، وأنه وسع أتباع هؤلاء الأنبياء ما وسع أنبياءهم أن يسلموا بالقيادة لهذا الرسول ورسالته التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها .

وعليهم الإيمان بهذا الرسول وذلك الدين الذى جعله الله الدين الوحيد في هذه الدنيا حيث قال سبحانه :


 ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾


 [آل عمران: 19]


 ومن ينظر إلى كل الأنبياء يجدهم أذعنوا بالإسلام وأقروا به ، فهذا ابراهيم ويعقوب يوصيان ، وهذا موسى يقر بذلك وهؤلاء الحواريون ، وهذا يوسف يسأل ربه الموت على الاسلام .


🌵اختيار النبي صلى الله عليه وسلم لقدح اللبن الذى يمثل الفطرة :


وقول جبريل له : هديت للفطرة وهديت أمتك .


وذلك يعنى : أن النظم التى ستترك عليك لتقيم دولة الاسلام على أساسها وتحكم بها بين الناس أنت وأمتك هى الفطرة التى لا يجد الناس حرجا بالأخذ بها .


والفطرة قد ينحرف بها صاحبها ولكنها تبقى دائما ولا تتبدل .


وهذا يؤكد أن الاسلام دين الفطره البشرية التى ينسجم معها ، فالذى خلق الفطرة البشرية خلق لها هذا الدين الذى يلبى نوازعها واحتياحاتها ويحقق طموحاتها ويكبح جماحها :


﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ 


[الروم: 30].


2 _ الأبعاد الاجتماعية :


• في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء على اختلاف قومياتهم وألوانهم :


تعنى أن الإسلام يظلل بمبادئه جميع المؤمنين فلا يفرق بين أسود وأبيض ولا بين عربي وعجمي ، تذوب القوميات كلها في بوتقه الايمان ، ثم تسكب في قوالب الامتثال لشريعة الرحمن .


• الرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة مختارة من لدن اللطيف الخبير تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعا .


وكأنما أريد لهذه الرحلة العجيبة :


إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله واشتمال رسالته على هذه المقدسات وارتباط رسالته بها جميعا فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان ، وتتضمن معانى أكبر من المعاني القريبة التي تتكشف عنها للنظرة الأولى .


🌵إن الإسراء من المسجد الحرام للمسجد الأقصى:


وإمامته للأنبياء ثم عروجه منه للسماوات العلى يعنى : أن بيت المقدس جزء من أراضي الدولة الاسلامية المرتقبة ، لأن صاحب البيت هو صاحب الحق بالإمامة في الصلاة ، واقتداء الأنبياء به يدل على إقرارهم بأن المسجد الأقصى بقعة طاهرة من بقاع الدولة الاسلامية .


يقول الشيخ الغزالي :


إنّ هذا يرجع بنا إلى تاريخ قديم ، فقد ظلّت النبوّات دهورا طوالا وهي وقف على بني إسرائيل وظلّ بيت المقدس مهبط الوحي ومشرق أنواره على الأرض وقصبة الوطن المحبب إلى شعب الله المختار ، فلما أهدر اليهود كرامة الوحي ، وأسقطوا أحكام السماء حلّت بهم لعنة الله وتقرّر تحويل النبوة عنهم إلى الأبد .


ومن ثمّ كان مجيء الرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ؛ انتقالا بالقيادة الروحية في العالم من أمة إلى أمة ، ومن بلد إلى بلد ، ومن ذرية إسرائيل إلى ذرية إسماعيل ، وقد كان غضب اليهود مشتعلا لهذا التحوّل مما دعاهم إلى المسارعة بإنكاره:


﴿ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ﴾


البقرة: 90


3 _ الأبعاد الروحية :


• حدثت معجزة الإسراء والمعراج إثر وفاة زوجه خديجة رضي الله عنها وعمه أبي طالب :


في عام أسماه المؤرخون "عام الحزن" فخديجة هى الجبهة الداخلية والبلسم الشافي للنبى صلى الله عليه وسلم من الجراح النفسية التي يلحقها به المشركون .

وما أروع كلامها له قالت له : 


"كلا ، والله لا يُخزيك الله أبدًا ؛ إنك لتَصِل الرحم وتحمل الكَلَّ وتَكسِبُ المعدومَ وتَقري الضيف وتُعين على نوائب الحق" .


وما كان لهذه الكلمات الزاكيات الطاهرات من آثار بالغة ، ضمدت جراح الخوف عند رسول الله وهكذا ينبغى أن تكون الزوجة ، صَمَّامُ أمان داخلي للبيت ، فالبيت سكن بما تحويه هذه الكلمة من هدوء وراحة .


• موت عمه الذى كان يمثل هو الآخر الجبهة الخارجية :


وما كان أبو طالب يموت حتى أحدقت برسول الله الأحداث فزادت حزنه وهمه حتى كاد ييأس من النصر ، فكان الإسراء والمعراج علاجاً روحياً لنفس النبي صلى الله عليه وسلم التي قاست الأهوال وخاضت غمار الشدائد الصلاب .




فضيلة الشيخ أحمد علي تركي مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف يكتب "رحلة الإسراء والمعراج الجزء3 و4" 


Share To: