القصيدة المستأنفة
شعر زكي العلي إنموذجا :
قراءة مقطوعة الشاعر العلي في تعريف الشعر وارتباطه بالإبداع
الناقد السعودي محمد الحميدي
يكتب الشاعر قصيدته في لحظة واحدة أم لحظات متعددة؟
هل يكتبها في وقت واحد أم في أوقات متنوعة؟
وما أثر ذلك؟
وماذا يسمى هذا الفعل؟
هي أسئلة تستهدف القراءة الإجابة عليها.
الكتابة الشعرية تعني رفع المشاعر المضطربة حد الغليان إلى الخارج ونشرها على الورق أو أمام الجمهور إلقاء وترجيعا
هذا الفعل يقوم به الشاعر بكل اعتيادية ولا يدرك العمليات الكامنة خلفه غالبا، لكونه يدور في حلقة اللاوعي لا في حلقة الوعي.(3)
من هنا انطرح التساؤل عن القصيدة:
هل يكتبها شاعرها في لحظة واحدة أي في اندفاعة (شعورية) واحدة فقط أم ضمن عدد من الاندفاعات وعمليات الرفع للمشاعر بما يتضمن ذلك من تنوع في الشعور وتبدل في الدرجة بين انخفاض وتأرجح وارتفاع؟
لا ريب أن لعدد الأبيات وطول القصيدة وقصرها اتصال بما نتحدث حوله، ولكن أيضا للحدث أو اللحظة المفجِّرة للقصيدة اتصال كذلك
القصيدة لا تسكن الشاعر فحسب، بل هي آتية من خارجه، أو من داخله نتيجة التأثيرات المتداخلة بين النفسي والاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي...
هذا القدوم والتفاعل الداخلي والتمازج بين العوامل المختلفة يخلق اللحظة الشاعرية بامتياز ويدفع الشاعر للكتابة وإنتاج النص وتسويغ فعله برفع المشاعر المتفجِّرة إلى الخارج فهو لا يرغب الاكتواء بنارها.
حيث يتحول الحريق الداخلي لطاقة إبداع لا تتوقف.
من هنا تأتي مقاربتنا لقصيدة الشاعر حول الشعر وصفا وشرحا وإبانة عن تفاعل وتمازج داخلي، انبعث من انفجار عظيم، وتحول إلى قصيدة مستأنفة، ترفض التوقف عند حد
والسبب يعود إلى عدم كفاية اللحظة الشعرية (أو الشعورية)، وهكذا تصبح الكتابة عملية استئناف لسابق، لا إبداعا لنص مختلف.
استئناف القصيدة:
أن يعيد الشاعر كتابة قصيدته في أوقات مختلفة، ليكملها ويضيف إليها أبياتا بعد أبياتها، ويستمر في عمله إلى أن يشعر بذهاب أثرها من داخله، ثم ينتقل لكتابة قصيدة أخرى، ذات موضوع وأثر مختلف، سواء تباعدت الكتابتان أم تلاصقتا.
بقاء الشاعر ضمن إطار القصيدة الأولى يعني بقاءه ضمن لحظة شعورية واحدة، تتجدد كلما كتب عنها، وهو ما يدعى الاستئناف الكتابي، حتى وإن ترافق ذلك مع تقاطعات هنا وهناك، وكتب خلالها نصوصا أخرى، إلا أن الهاجس بموضوعها يظل شغله الشاغل وهمه المستمر.
هذا النوع من الكتابة يمكن مشاهدته عند الشاعر في حياته الاعتيادية بالنسبة للقريبين منه والملتصقين به، ولكنها تظهر بوضوح على صفحات السوشل ميديا باعتبارها كشفا لحالة لا يمكن إخفاؤها، وكأنها تعني الفضح الشعوري والانسكاب أمام الجمهور.
ولو تناولنا قصيدة الشاعر زكي الياسري بمقطعيها سنجد التلازم بينهما، ففي مقطوعة رقم (1) يقول:
"الشعر
أن تعلو إلى أقصى
فضاءات الخيال
تحك ظهر الغيم
ترميها شباككَ
في زكام الذكريات
تصيد لون الماء
تنتهز التجلي
الشعر خطتك البديلة
للهروب
الشعر فسحة.!"
المقطوعة تحاول إعطاء الشعر تعريفا وهو ما يمتنع على الشاعر كتابته في صورة علمية فيلجأ إلى الكتابة الإبداعية متوسلا الخيال ولكنه الخيال الكاشف فلا يعني الاعتماد عليه الخروج عن سلطة التعريف المدرسي الأكاديمي
أبدا إنما هي نظرة شاعر وفق حالته النفسية وهو ما يُدعى التعريف الذاتي
الشعر لدى العلي يمر بمراحل ثلاث وينتهي بنتيجة.
في المرحلة الأولى تستخدم خيالك إلى أقصى حد، فالشعر خيال (نص تخييلي) وبدون هذا الخيال ليس للشعر دورة حياة:
"الشعر
أن تعلو إلى أقصى
فضاءات الخيال"
في المرحلة الثانية:
الخيال يرتقي ويرتفع عاليا ولذا فهو لا يسكن الأرض ولا يبيت بين البشر، فمكانه السماء، بالقرب من الغيمات، يصطادها بشباكه، التي ليست سوى ذكريات كثيرة ومتناقضة:
"تحك ظهر الغيم
ترميها شباكك
في ركام الذكريات"
أما في المرحلة الثالثة:
لأنها غيمة فإن الفائدة الوحيدة من إلقاء الشبكة والصيد لن تكون إلا الحصول على الماء، قطرات منه فحسب، لتنكشف الغيمة ويحين وقت انجلائها:
"تصيد لون الماء
تنتهز التجلي"
ثم النتيجة:
تأتي لحظة الكشف النهائي للذات أمام القصيدة، فليس الخيال سوى رافعة للمشاعر، وها المشاعر تظهر للعلن، وهنا تأتي مرحلة أخرى للكتابة الشعري، واستئناف لتعريف الشعر، باعتباره هروبا من واقع غير مرغوب:
"الشعر خطتك البديلةللهروب"
أما لماذا الهروب فهناك العديد والعديد من الأسباب، لا يذكرها الشاعر، وتبقى طي الكتمان باعتباره سر الأسرار الذي لا يبوح به لأحد، ويكتفي بالتأكيد على أن:
"الشعر فسحة.!"
وهنا انتهت المقطوعة وأطلقها الشاعر في فضاء السوشل ميديا ولكن الهروب يلاحقه ويستدعي ذاته مرارا أمام القصيدة كي يكملها، ولا أفق يصل إليه، إلى أن تحصل لحظة الاستئناف عبر مقطوعة تالية (2) تكمل ما بدأ في تدوينه
المقطوعة الثانية (أو ما أشرنا إليه بمسمى استئناف القصيدة) :
"الشعر
مخلوق رقيق
يسكن الأرياف يستلقي على عشب الطريق يغازل الأشياء
تخنقه العوادم ... والمصانع
في المدينة!"
الهروب إلى الشعر بات غير ممكن والسبب اختناق الشاعر بأجواء المدينة وضجيجها وتأثيراتها السلبية، وهو ما يقوده للعودة إلى الريف على سبيل التمني والرغبة، حيث الشعر ينمو على إيقاع الغابة ويتآلف مع الريف
ولعلنا نطرح تساؤلا بدورنا: هل انتهى الشاعر من قصيدته وأتمها؟
الجواب لدى الشاعر القلق، المضطرب الذي يروم إعادة التوازن إلى داخله ولا يستطيع، فيعيش اللحظة مستشعرا خطر المستقبل المجهول، وهو ما يظهر بوضوح في تعريفه للشعر.
ملاحظات حول القراءة:
القراءة تمت عبر السوشل ميديا ولذا تعتمد التكثيف والإيجاز عوض الإطالة والتوضيح وتهدف بلغتها مخاطبة ذكاء القارئ
1/ لا يجوز إدراك الحوادث المحيطة بالشاعر سواء ذكرها أم لم يذكرها فالفضاء الإلكتروني ليس توثيقا لحالة شخصية وإن تم الاعتماد عليه في المقاربة
2/ بعض المصطلحات الواردة ربما يجدها القارئ في كتابات أخرى بألفاظ مختلفة ولكن المقصود ذاته.
3/ المقاربة تهمل الأجزاء غير المذكورة أو التي لم ينشرها الشاعر وبهذا يمكن أن تقع القراءة في مشكلة بنائية لا تنجلي إلا بمعرفة واكتشاف بقية الأجزاء.
4/ تتعالق القصيدة المقروءة مع قصائد لشعراء آخرين عبر السوشل ميديا ويمكن أن تأخذ منها أو تعطيها أو تأتي لمجرد التشابه، ولإكمال القراءة ووصولها إلى نتائج أكثر دقة ينبغي قراءة تلك القصائد وإيجاد العلاقة بينها وبين القصيدة الحالية.
Post A Comment: